الجمعة، ١٧ أبريل ٢٠١٥

الثلاثاء، ١٨ سبتمبر ٢٠٠٧

قصة الجرس






نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان



الجــرس



قصة محمود البدوى


شعرت وأنا فى طوكيو بألم حاد فى ضرسى لم أعرف سببه .. ولما كنت لا أستطيع أن أتحرك خطوة .. فى هذه المدينة الحالمة وأنا أحمل هذا الصاروخ بين فكى .. فقد أسرعت فى الحال إلى أول طبيب أسنان عرفته من الدليل ..

وفحصنى الطبيب الشاب من رأسى إلى قدمى .. كأننى سأشتغل طيارا ..

ثم قال فى هدوء :
ــ إن الضرس سليم ..

فسألته فى استغراب :
ــ وما الذى يوجعنى أذن ؟..
ــ أعصاب اللثة .. إنها التى تصرخ ..

وأطرق برهة ثم سألنى كأنه يرتب أمرا ..
ــ كم يوما ستبقى فى طوكيو ..؟
ــ ربما شهر وأكثر ..
ــ حسن جدا .. يكفى أسبوع واحد للعلاج ..

وتحدث توا مع مساعدته الحسناء باليابانية .. فأخذتنى إلى غرفة مجاورة .. حيث غسلت فمى بكل أنواع المطهرات .. ثم غرست فى لحمى إبرة .. وانصرفت على أن أعود فى اليوم التالى .. لأواصل العلاج ...

والواقع أننى كنت أستطيع أن أنقطع عن التردد على العيادة بعد هذه الحقنة فقد زال الألم تماما .. ولكن الحى كله جذبنى بجماله الباهر .. وجعلنى أحس بحنين بالغ إلى زيارته مرة أخرى ..

وكان فى البناية الملاصقة لعيادة الطبيب منزل قديم من طابقين وكان متجرا لبيع التحف الثمينة والتماثيل ..

ولاحظت على بابه الزجاجى جرسا صغيرا .. يتحرك .. كلما تحرك الباب كأنه ينبه من فى الداخل لكل من يتخطى العتبة .. وكان هذا الشئ العتيق غريبا فى اليابان الحديثة التى يتحرك فيها كل شئ أتوماتيكيا .

وكان الأغرب من هذا مارد ضخم جثم فى مدخل الباب .. ولم يكن فيه شئ من ملامح الرجل اليابانى أو قامته .. وكان يرتدى سترة وسروالا أسمرين ويلبس حذاء طويل العنق .. وكان رأسه أصلع يلمع وشاربه كثا طويلا يتدلى على جانبى فمه ..

وكان يذرع طوار المحل فى حركة رتيبة بطيئة وهو يدخن .. كأنه الأسد فى عرينه ثم يعود إلى الكرسى فيجلس عليه متحفزا للقيام فى كل لحظة ..

ولم أكن أدرى علاقته بالمتجر على وجه التحديد .. ولكن طول قامته .. والجرس الذى يرن فوق رأسه .. استرعيا نظرى ..

وفى عصر يوم ولجت باب المحل .. وحيانى الرجل العملاق وأنا داخل ... فأحنى رأسه مرتين على عادة اليابانيين وفتح لى بيده الباب .. وسمعت رنين الجرس .. واستمر الرنين عدة ثوان حتى بعد أن جاوزت المدخل ..

ورأيت فى المتجر .. كل أنواع التحف الغريبة .. أوانى المائدة التى تعزف الألحان الموسيقية .. وعلب السجائر التى تعزف نشيد شهرزاد .. والأكواب التى تنشد الأغانى اليابانية .. وتماثيل بوذا من الذهب الخالص ..

وكان فى المحل أكثر من عشرين فتاة من العاملات فى سن واحدة وعلى مستوى واحد من الجمال الفتان ..

وكان منظرهن ببشرتهن الناصعة البياض فى المرايل الزرقاء والشعر الأسود المعقوص على الطريقة اليابانية .. يأخذ بلب السائح أكثر من النفائس التى فى المتجر ..

ووقفت أمام صف التماثيل .. فأعجبنى تمثال صغير لبوذا من الخزف دقيق الصنع .. ولكننى خشيت أن يتحطم من سفرى الطويل .. وحدثت الفتاة العاملة بمخاوفى فقالت لى أن فى الدور الأرضى تماثيل معدنية من النحاس والذهب والفضة الخالصة تصل سليمة إلى أى مكان .. دون أن يصيبها أقل خدش .. مهما كان السفر ...

واتخذت طريقى إلى السلم الهابط .. ولكن قبل أن أضع قدمى على أول درجة .. سمعت من يقول بصوت ناعم بالإنجليزية ..
ــ سأريك الطريق ...

فتلفت ورائى .. فوجدت سيدة أنيقة كنت قد رأيتها واقفة فى البهو وانا داخل وعرفت أنها زوجة صاحب المتجر ..

وقادتنى وهى تنساب أمامى فى رشاقة إلى العاملة التى سترينى التماثيل .. فهبطت هذه فى قبو .. معتم .. خفت أن أمضى فيه وحدى مع الفتاة .. لولا أن المدام شجعتنى بنظراتها .. ثم رأت أخيرا أن تنضم إلينا وأصبحنا الثلاثة فى دهليز طويل .. كأنه الطريق الداخلى للهرم وكنت أحس بأنفاس المرأة .. وأشم عطر الفتاة التى أمامى ثم بلغنا حجرة واسعة فيها كل أنواع التماثيل والتحف النادرة ..

ورأيت عربة جميلة يجرها ستة جياد مطهمة .. وكانت تمثل القيصر نقولا .. وهو ذاهب إلى الأوبرا .. وكان كل جزء من التمثال يعد وحده تحفة نادرة الصنع ..

وسألت المدام ..
ــ أهذا صناعة يابانية ..؟
ــ إنها روسية خالصة .. وسأجعلك تتأكد من ذلك ...

وكلمت الفتاة .. فصعدت هذه سلما صغيرا .. لتأتى بالعربة ..

وبدا من سيقان الفتاة وفخذيها .. وهى واقفة على السلم أكثر مما ينبغى ولاحظت نظراتنا فحاولت أن تخفى عريها .. وكانت هذه الحركة منها .. أكثر إثارة من الموقف نفسه ..

فضحكت واهتزت ولم تستطع أن تحمل التمثال .. وقالت لها المدام وهى تبتسم وقد أدركت بغريزتها الموقف .
ــ انزلى .. يا اسوارا .. واستدعى .. سيمونوف ..

ونظرت إلىَّ بعد أن خرجت الفتاة من الدهليز .. وهى تضحك ..
ــ إنها طفلة ضاحكة ..

ثم تأملتنى مليا .. كأنها ترانى لأول مرة بكل صفاتى .. وسألت برقة ..
ــ هل أعجبتك طوكيو ... ؟
ــ رائعة ...
ــ وإلى متى ستبقى فيها ..؟
ــ إلى أن تطردونى منها ..
ــ إنك لن تطرد أبدا .. إننا نرحب بك مهما طالت إقامتك ..
ــ لقد قررت من هذه اللحظة أن أعيش فى طوكيو ..
ولم تعقب .. وابتسمت .. بكل جمال .. وبدت فى هذا الضوء الخافت .. وهى وحيدة معى ... أشد فتنة مما رأيتها فى الدور العلوى .. وأخذت أنظر إليها صامتا فى وله ..

ورأيت أنوثتها تجذبنى إليها بقوة .. وأخذت أتأمل كل قوامها .. ولاحظت.. كدمة .. أو ضربة بآلة حادة تحت عنقها .. ولكنها أخفتها ببراعة تحت ثوبها ..

وكانت واقفة قريبا منى .. وبدت من يدى حركة .. وأنا أشد إلى بعض التحف فلاحظت أنها جفلت .. كأنها تتصور أنى سأضربها ..

ثم استفاقت وقالت .. وقد شعرت بالخجل :
ــ لا أدرى ما الذى جرى لى ....

فابتسمت وقلت ..
ــ أن هذا يحدث لكل إنسان ..

وسألتنى وعيناها تفحصانى بدقة :
ــ ما اسمك ؟
ــ سليمان ..
ــ باكستانى ..؟
ــ لا .. مصرى ..
ــ أوه عظيم ...
ــ ما الذى تعمله ...
ــ لاشئ فى الوقت الحاضر ....!
ــ لا شئ ..؟!
ــ لا شئ إطلاقا ....!

وضحكت بكل جسمها ثم قالت وهى ترخى أهدابها ..
ــ إذن سأجعلك مديرا للمتجر ..
ــ ما أعظمه من عمل !

ووقفت أحلم بالعمل معها تحت سقف واحد .. واستفقت من أحلامى على أقدام سيمونوف وهو يقرع السلم .. وعندما رآنى أقف وحدى مع المدام رمانى بنظرة صاعقة على خلاف النظرة التى لقينى بها وأنا داخل المحل..

وانتصب فى الممر كالفارس وأشارت له المدام بيدها فهز رأسه وأدركت لأول مرة أنه أبكم ..

وصعد درجتين من السلم .. وأنزل العربة بسهولة وعناية ولما وضعها على الطاولة خرج يمسح يديه ..
وأخذت أنظر إلى التحفة فى إعجاب ..

وسألتنى المدام :
ــ أعجبتك ..؟
ــ إنها رائعة .. بكم تبيعينها .؟
ــ بمائة جنيه .
ــ أليس هذا كثيرا ..؟
ــ إنها تساوى ألفا ....

ونظرت إليها .. وكانت تبتسم فى نعومة ولم أكن أحب أن أقطع هذا الخيط الذى يصلنى بها .. فقلت ..
ــ هل يمكن ان تبقيها فى مكانها إلى الغد .. أحب أن أراها مرة أخرى ..
ــ كما تحب ..

ومشت معى إلى الخارج .. وعلى باب المتجر .. كان الرجل المارد فى مكانه .. وفتح لى بيده الباب وسمعت قرع الجرس أكثر وضوحا ..

***

وفى اليوم التالى .. أخذت فى لهفة أسأل مساعدة الطبيب .. وهى تعد لى الإبرة .. عن المتجر وعن المدام صاحبته على الأخص .. وقالت لى الفتاة كل ما تعرفه ..

قالت لى إن صاحب المتجر وزوج المدام الأول كان روسيا .. ومن أشهر تجار التحف فى طوكيو .. وكان يأتى بالأشياء النادرة من روسيا مباشرة قبل الثورة الحمراء وعاش مدة طويلة فى طوكيو .. فاستوطن فيها وأصبح من أهلها وتزوج هذه الحسناء اليابانية التى تدير المتجر الآن ولما مات لم تكن قد أنجبت منه فورثت المتجر وتزوجت ..

تزوجت رجلا يابانيا يدعى ايجاكوشى وهو سكير لا يفيق من السكر ويذهب كثيرا إلى يوكوهاما .. فى بعض أعماله ولذلك لا تراه فى المتجر إلا نادرا ..

أما الحارس الذى على الباب فهو قوقازى .. جاء مع الرجل الأول ...

***

ولما ذهبت إلى المحل .. عصر اليوم التالى .. اشتريت العربة .. وحملها سيمونوف إلى السيارة .. ولم أنقطع ــ بعد شراء العربة .. وبعد انتهاء أيام العلاج عند الطبيب ـ عن التردد على المتجر .. كنت أذهب إليه كل يوم تقريبا وأشترى أى شئ مهما صغر ..

وأصبحت المدام تعرفنى معرفة أكيدة وكنت كثيرا ما أراها فى شوارع طوكيو نتبادل التحية من بعيد ورأيتها ذات ليلة منطلقة فى عربة فخمة حول قصر الإمبراطور وكانت فى تلك اللحظة مثال المرأة اليابانية الأرستقراطية .. فى أناقتها وزينتها ولم يكن معها زوجها كانت تقود العربة الطويلة وحدها ولما رأتنى .. ابتسمت فى نعومة فأحنيت لها رأسى مرتين ..

ولما ذهبت إلى المتجر فى اليوم التالى .. وقفت أتحدث مع مدام ايجاكوشى قبل أن اشترى شيئا .. وعرفت الفندق الذى نزلت فيه والأماكن والملاهى التى شاهدتها ..

وسألتنى :
ــ وما الذى لم تره حتى الأن ....؟
ــ الجيشا .. والبيت اليابانى ...
ــ سأريك البيت اليابانى .. أما الجيشا .. فلا أعرف مكانها ..
وضحكت ...

وكانت تود أن نتلاقى فى المتجر .. ولكننى لم أكن أحب أن يرانى سيمونوف أو العاملات .. وأنا أركب عربتها .. وكنت فى الوقت نفسه لا أحب أن أذهب إلى بيتها فى النهار .. ولذلك اتفقنا على أن أنتظرها فى مشرب الـ ( كوين بى ) بشارع جنزا فى الساعة الثامنة مساء ..

وفى الموعد المحدود دخلت المشرب خفيفة رشيقة .. وقالت وهى تقرب عصير التفاح ..
ــ لم أستطع أن أجئ بالعربة ..
ـ لماذا ..؟ قد يكون هذا أحسن ..
ــ خشيت ألا أجدك هنا فى الوقت المحدود .. وأنت تعرف أننى لا أستطيع ان أقف بالعربة اكثر من ثانية واحدة فى شارع جنزا .
ــ أعرف هذا ...
ــ والعربة الآن فى جراج فندق نيكوسيا ..
ــ سنذهب إليها بالتاكسى ..
ــ أو على أقدامنا .. إننى أحب أن أمشى بجوارك ..

وأخرجنا العربة من جوف العمارة الكبيرة .. وركبت بجوارها ..

وانطلقت كالسهم وسط السهام النارية كأن هناك سيل متصل من العربات لا أول له ولا آخر ومع هذا كنا نسرع بأقصى سرعتنا .. ولم أكن أدرى وأنا جالس معها فى العربة نفسها أأنا مجرد عميل من العملاء التقى بها فى المتجر أو عشيق ذاهب معها إلى نزهة حالمة اختلط على الأمر كله .. ولكنها كانت أكثر رقة وعاطفة من كل النساء اللواتى التقيت بهن فى حياتى ..

وسارت السيارة أكثر من ساعة .. وأخيرا وصلنا منزلا صغيرا من طابقين .. فأوقفت العربة فى جانب ..

وسألتها :
ــ أهذا بيتك ؟ .. ما أجمله ..!
ــ إنه بيت أختى ...

وخلعت حذائى قبل أن أتخطى العتبة .. ومشيت حافيا وراءها على الحصير الملون الجميل .. وأدخلتنى فى غرفة صغيرة .. كلها حشايا ووسائد .. فجلست على الأرض ..

وقالت برقة :
ــ أرجو المعذرة .. سأغيب لحظة ..

وغابت .. وجلست مسترخيا .. وسمعت صوت قيثارة آتيا من الخارج حتى وقفت على الباب وكان الصوت يقترب منى وكانت ترتدى ملابس الجيشا.. وبيدها القيثارة ..

ولم أعرفها أولا .. ولما عرفتها انحنيت بجسمى وطوقت رجليها فتركت القيثارة من يدها وأرتمت بجوارى على الحصير ..

***

وبعد ثلاثة أيام رأيت زوجها فى المحل .. وكان قصيرا .. عريض الصدر .. ولم يكن عجوزا .. كما تصورته .. بل كان شابا ولكن وجهه كان مكورا مضغوطا كأنما ضغط عليه فك قوى ثم أطلقه ..
وكان يتحدث مع أحد العمال .. ووجهه على الأوراق ..

ولما أشتريت بعض الأشياء وخرجت كان قد غادر المحل قبلى ..

وفى ضحى يوم لم أجد المدام فى المتجر فسألت عنها إحدى العاملات ..

فقالت هامسة ..
ــ إنها مريضة فى البيت .. فقد ضربها زوجها حتى أدمى وجهها .

وفزعت وسألت الفتاة :
ــ ولماذا ضربها ..؟
ــ لأنه مخمور .. وهو دائما يضربها كلما عاد من يوكوهاما .. دون سبب..

وتألمت .. وكنت أود أن أجد وسيلة لرؤيتها .. وخرجت من المحل .. وعدت فى العصر إلى المحل .. ومن الخارج رأيتها فدخلت وأسرعت إلىّ كانت عيناها حمراوين وفى وجهها كدمات ظاهرة .. وأخذتنى كأنها سترينى شيئا فى الطابق الأرضى وهناك عصرتنى بذراعيها .. ومسحت جراحها بشفتى ..

وبعد ثلاثة أيام ضربها زوجها مرة أخرى ضربا مبرحا .. حتى عجزت عن الحركة .. وقعدت فى البيت .. وسمعت هذا الخبر من العاملة سيمايا .. فقررت أن أفعل كل ما فى طوقى لأنقذها من خبله ..

ولكن المقادير جرت أسرع منى .. فقد رأيت .. زوجها مشنوقا فى الليلة التالية ومعلقا تحت الجرس وكان المحل قد أغلق أبوابة .. ولكن الباب الخارجى كانت تهزه الريح العاتية فيرن الجرس ...

وكان سيمونوف .. جالسا فى مكانه من المدخل .. وكان ينظر إلى الجرس كعادته وهو يتحرك .. ولا يستطيع أن يسمع رنينه ..

وكان فى يده بقايا الحبل الذى أداره على عنق الرجل .. ولما اقتربت عربة البوليس السريعة وهى تشق الظلام وسكون الليل بصفيرها المزعج ظل فى مكانه وكانت الجموع تقترب منه كعادة الجماهير فى كل مكان ..

ولكن سيمونوف لم يكن يعيرها أية التفاتة ..!!
================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 26/5/1958 وأعيد نشرها بمجموعة حارس البستان وبمجموعة قصص من اليابان من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
================================

سأصنع له تمثالا

سأصنع له تمثالاً

قصة محمود البدوى

دخلت « ميرفت » الحجرة رقم 802 تحمل شاى الصباح .. للنزيل الجديد فوجدته قد إستحم وارتدى بدلته ..

ووقف أمام المرآة يربط « الكرافته » فتناولتها منه كعادة فتيات الفنادق فى اليابان ..

وأخذت يداها تلامسان عنقه فى نعومة ومحياها الجميل يفيض بالبشر والإيناس .. وترك لها « تاكاناوا » Tacanawa عنقه فى استسلام ..

ثم سألها بعد أن فرغت من الربطة :
ــ لم أرك فى الليل .. ؟
ــ إننا نترك الفندق فى الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل .. ويأتى بعدنا الغلمان ..
ــ كل الفتيات .. ؟
ــ أجل كل الفتيات فى كل الطوابق .. هذا هو نظام الفندق ..
ـ ولكنى شاهدت فتيات يبقين إلى الصباح فى فنادق أخرى ..
ــ تجد مثل هذا فى بيوت الجيشا .. وفى الفنادق الصغيرة فى مدينة طوكيو.. أما فى دايتشى فلا .. !
ــ تتحدثين كأنك يابانية تعرف كل شىء فى اليابان ..
ــ أنا يابانية .. ! أنظر إلى الربطة فى عنقك .. هل توجد يابانية تأتى بمثلها.. ؟
ــ أبدا .. أبدا ..

وحدق فى عينيها العسليتين الواسعتين .. وفى تقاطيع وجهها الدقيقة ، وكل ما فى قوامها من رشاقة .. فنكست رأسها برهة وهى شاعرة بالخجل من نظراته ثم رفعت رأسها وعادت تستقبل نظراته القوية بنظرات فيها وداعة .. تطلعت إلى وجهه المستدير الصارم وعينيه الضيقتين .. وقامته التى بدت لها أطول من كل يابانى شاهدته .

وعجبت لعنايتها به وانجذابها إليه دون سائر النزلاء ..

فمع أنها تعمل فى هذا الفندق منذ أربع سنوات وتقابل النزلاء من كل أجناس الأرض وألوانهم المختلفة .. الرجال والنساء والشباب والشيوخ بيد أنها تعاملهم جميعا كعابرى سبيل ماضين إلى وجهتهم ، وما من أحد منهم ترك فى نفسها أثرا أو حرك عواطف الأنوثة التى فيها .. كلهم كان يشغل الغرف ثم يتركها خالية لغيره ..

وتمضى الحركة فى الفندق على هذا الوجه الرتيب .. حركة جامدة فى نفسها كحركة المصاعد ، وحركة الباب الدوار ..

أما هذا الشاب فقد عجبت لعاطفتها نحوه .. ألأنه يابانى وأمها يابانية مثله .. ؟ .. ما أكثر النزلاء اليابانيين فى الفندق .. !

الواقع أنه حرك مشاعرها عندما حدثها بأنه مسافر إلى مصر .. مصر موطنها وبلد والداها .. التى لم ترها منذ كانت طفلة وقد برحها الشوق إليها ..

وقال لها بعد أن صبت الشاى ووقفت منتصبة فى زى الفندق الجميل ..
ــ أجلسى يا آنسه مرفت ..
ــ الجلوس ممنوع .. !

وضحك .. وعقب ..
ــ ولكن الباب مغلق .. !
ــ إن هذا لا يغير من وجه المسألة فى نظرى .. وأنت تعرف معنى النظام والأمانة فى العمل أكثر منى ..
ــ أنا أكبرك على هذا .. ولكنى أشفق عليك من هذه الوقفة المتعبة .. !

فردت فى دمائة :
ــ لا تشغل نفسك بى .. متى ستسافر إلى القاهرة .. ؟
ــ بعد عشرة أيام .. ويوم الأثنين سأسافر إلى « هونج كونج » ..
ــ وستزور أسرتى كما اتفقنا .. ؟
ــ بالطبع فى شارع القاصد بحى عابدين المنزل رقم .. إنه محفور فى ذهنى ..
ــ سأعد لك هدايا لتحملها إليهم « سيفرحون بها كل الفرح » ..
ــ الهدايا ممنوعة .. !
واتخذ وجهه هيئة الجاد ..

فسألت فى استغراب وقد حسبته يهزل ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سنمر فى طريقنا على بلاد كثيرة ومنها إسرائيل ..
ــ ولماذا تذهب إلى اسرائيل .. ؟
ــ أنا تاجر .. وأتاجر مع جميع الدول ..
ــ حتى إسرائيل التى تحارب العرب وتقتل نساءهم وأطفالهم .. ؟ !!
ــ التجارة لا دخل لها بالحرب .. !
ــ كيف هذا .. ؟! بنقودك سيشترون الرصاصة التى يقتلون بها العربى ..
ــ ومايوه البحر .. ! إن التجارة لا دخل لها بالحرب ..

فرمقته بنظرة غاضبة وحملت الصينية وخرجت تهرول ..
فقال لنفسه :
ــ ماذا أصنع .. لحماقات النساء .. ؟!

وبعد خمس دقائق خرج من نفق المترو واتجه إلى حى جنزا ..

***

ومر على صف من الملاهى الصغيرة التى أسدلت سترها وأغلقت أبوابها .. لأنها كانت ساهرة إلى الصباح ..
ونظر إلى ساعته وهو يخرج من نطاق الدكاكين الصغيرة المغلقة ويتجه إلى شارع جنزا نفسه الذى بلغت فيه الحركة أشدها ..

وبدت الشمس ساطعة على النوافذ البلورية فى العمارات والمتاجر الكبيرة ، والبالونات القرمزية التى كانت مضيئة وساطعة فى الليل .. أخذ يؤرجحها هواء الصباح الجميل ويمايل بها .. وهى كأنها معلقة فى خيط سحرى كلما دفعها إلى السماء جذبها إلى الأرض ..

واستيقظت المدينة الضخمة .. وكل شرايين الحياة فى جسمها الكبير أخذت تعمل بنشاط عجيب .. والمشاة يسرعون على الأرصفة كأنهم فى سباق .. والسيارات الكبيرة والصغيرة تمرق كالسهام .. فى الصباح المشمس ..
ومشى « تاكاناوا » على الرصيف الواسع فى مثل سرعته التى اعتاد عليها فى المشى .. وكان يرتدى بدلة بنية كاملة ، ويبدو أنيقا فى هندامة ، والكرافتة التى ربطتها له « ميرفت » زادت من أناقته ..

وأوقف تاكسيا صغيرا عند التقاطع فركبه وسار به قليلا فى الشوارع ثم نزل منه .. ودخل متجر نياتسو .. وصعد بالسلم الكهربائى إلى الدور الخامس وبعد أن تجول فى هذا الطابق يستعرض ما فيه .. دخل المطعم .. ووجد سيدة يابانية جالسة فى انتظاره وكانت تأكل بعض الفطائر .. وبجانبها على كرسى ربطات كثيرة .. فحياها وجلس يتحدث ولما جاءت العاملة طلب فطيرة وفاكهة ..

وسأل صاحبته .. وهو ينظر إلى الربطات بجانبها ..
ـ لماذا لم تدعى هذه الاشياء للمتجر ليوصلها إلى بيتك .. ويريحك منها .. ؟
ــ أين ذهب ذكاؤك .. لابد أن أخرج بهذه الأشياء على صدرى .. !
ــ حقا أنت أذكى الجميع .. وكيف حال يواناكا .. ؟
ــ بخير .. وسنقابله بعد الظهر ..

وجلسا يتسامران كعاشقين .. وناولته جريدة « اساهى » فقلب صفحاتها طويلا ثم عاد يستأنف معها الحديث .. والضحك .. ونهض إلى دورة المياه فى نفس الطابق ..

وهناك قرأ ورقة صغيرة كانت قد وضعتها فى جيبه ثم مزقها وشد عليها السيفون ..

***

وفى ليلة السفر التقى تاكاناوا « بمرفت » فى ملهى « السفينة » ثم خرجا يتجولان فى حى شمباسى ويلجان المطاعم والحانات وشربا الساكى ، وتسليا القمار فى الآلات الأتوماتيكية المنتشرة هناك ..

أمضيا ليلة صاخبة وحافلة بضروب الإثارة .. وفى القطاع من المدينة الذى يكثر فيه اللصوص والأفاقون ..

وفى منتصف الليل اعترضه بعض الأفاقين ، وتحرشوا به تحت سقيفة الكوبرى .. ليخذلوه أمام فتاته ويسرقوا ما معه من نقود .. ولكنه صرع واحدا منهم بحركة بارعة من قدمه .. ووقف يتحدى الآخرين .. ثم خرج «بمرفت » إلى ضوء الشارع ..

وقالت له وقد عجبت بجرأته وشجاعته ..
ـ إن لى خمسة عشر عاما فى طوكيو .. ولم أشاهد هذه الأماكن إلا بصحبتك وأنت القادم من يوكوهاما .. ألا تخاف وأنت وحدك .. ؟ كيف تحمينى من هؤلاء السكارى المتشردين ..؟
ــ أشعر وأنت معى بأن فى قوة هرقل مضروبة فى عشرين ضعفا ..
ــ ما أحلى هذا الكلام .. أجئت إلى هذه الأماكن لأول مرة .. !
ــ شاهدتها من قبل .. أكثر من مرة .. واحببت أن أراها فى ليلة سفرى .. فربما لا تقع عليها عينى مرة أخرى ..
ــ لماذا .. ؟ ألا تحب أن تجىء إلى طوكيو مرة أخرى .. ؟
ــ ربما لا يحدث هذا .. إن رحلتى طويلة هذه المرة ..
ــ كنت أتمنى أن تبقى للغد .. وتزور والدى فى محل الساعات الذى يعمل فيه وتسمع منه كيف أحب أمى اليابانية عندما كان صاحب دكان صغير للساعات بالقاهرة وهاجر معها إلى طوكيو .. ثم أحب طوكيو .. كما أحب القاهرة ..
ــ تكفينى رؤيتك أنت .. ففيك أرى صورة والدك ووالدتك مجتمعين ..

كان يشعر فى أعماق نفسه بالرضى والسعادة .. السعادة التى لم يحس بمثلها من قبل ..

وكانت الأنوار الزاهية تتلألأ أمام عينيه ، وعن شماله ويمينه ، فى الحى الذى يتلألأ فى الليل ويزهو على كل أحياء الدنيا لما فيه من جمال حى جنزا العديم النظير ..

تحت البالونات المضيئة بكل الألوان الزاهية الجميلة .. وعلى الرصيف الأيمن كانا يسيران متمهلين وكأنما يقومان بإحصاء البلاط الأبيض قطعة قطعة.. ورغم الزحام الشديد .. لم يغيرا من خطوهما البطىء ..

ووجدته ساهما بعد مرح طويل فسألته ..
ــ ما الذى تفكر فيه .. ؟
ــ أفكر فيك فى الواقع « وأود أراك مرة أخرى » ..
ــ سترانى ..
ــ أرجو أن يحدث هذا ما دامت هذه إرادتك ..

وهبطا السلالم إلى محطة المترو ليركبها إلى بيتها .. ووقفا على الرصيف قليلا .. فى انتظار المترو .. وشد انتباهها جريدة أجنبية معلقة على كشك بائع الصحف والمجلات نشرت بصورة كبيرة « وبارزة » حادث الطائرة البلجيكية فى مطار اللد .. فتناولت الصحيفة بسرعة ونثرتها .. وسالت من عينيها الدموع سريعا فى حرقه ..

وقالت من خلال عبراتها :
ــ انظر كيف فعل الأنذال يسحبون الجثث على جناح الطائرة ..
ــ انظر كيف يفعلون بالموتى بعد أن قتلوهم بالخديعة .. أين شباب العرب.. ؟ أين .. ؟؟
ــ يا للعار .. ؟
وأخذت تولول ...

كان يعرف ما حدث بكل التفاصيل ولكن الصورة التى عرضتها « مرفت » كانت بشعة فتجمد وجهه وتناول منها الصحيفة وطواها .. وظلت تبكى وجسمها يرتعش فخرج بها من المحطة .. حتى لا يراها الناس وهى باكية ..

وقالت وهى تمسح عبراتها ..
ــ هؤلاء الأنذال الذين أنت ذاهب إليهم لتتاجر معهم .. !
ــ التاجر يتعامل مع الأخيار والأشرار فى هذه الدنيا ..
ــ ولا ضير عليك أن تذهب إلى إسرائيل بعد الذى شاهدته من دناءتهم ..؟
ــ أبدا .. لا ضير علىّ .. واعذرينى ..
ــ لا تجعلنى أكرهك بعد أن أجد ..

فتناول يدها صامتا .. ثم أركبها المترو فى المحطة التالية .. واتجه وحده إلى الفندق .. وكانت الريح ساكنة .. ولكن الليل لا يزال صخابا فى المدينة الكبيرة ..

***

وفى الصباح جاءت تودعه .. وكانت نوبة عملها فلم تستطع مبارحة الفندق ..

وشاهدته من نافذة الغرفة التى تركها .. يمضى وحده فى الشارع مع ضوء الشمس وبيده حقيبة صغيرة ..
وغالبت عبراتها ..

ووعدها بأن يكتب لها يوميا ولكن مضت أيام ولم تأت منه رسائل ولا حتى بطاقات بريد ..

***

وفى صباح يوم .. وقبل أن يمر أسبوعان على سفره شاهدت صورته فى جريدة « أساهى » صورة كبيرة تشغل نصف الصفحة ..

وقرأت كل ما فعله فى المطار لينتقم ويثأر فصاحت بالعربية فى جنبات بيتها ..

سأصنع له تمثالا

وعجبت أنها لم تدمع لها عين ..

===============================
نشرت بمجلة روز اليوسف 26/6/1972 وأعيد نشرها فى مجموعة " عودة الابن الضال " و مجموعة " قصص من اليابان " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
================================

قصة الليل والنهار

الليل والنهار
قصة محمود البدوى


فى حى جنزا حينما دقت الساعة السادسة صباحا دخل إبراهيم شارع الملاهى وكانت أبواب المراقص كلها مغلقة ، وبدأ الحى الساهر طوال الليل ينام ..

كانت البنايات صامته والنوافذ أسدلت عليها الأستار الحريرية وظلت البالونات فى مكانها تسبح فى الجو ومداخن المطابخ الشهباء تلفظ آخر ما فى جوفها وتصافح أبراجها العالية أشعة الشمس .. فيدوب ما علق بها من ندى الصباح ..

وكان الكناسون قد بدأوا فى العمل منذ أطفئت المصابيح فى الحى ، وجرفوا قاذوراته إلى الجوانب الخلفية ..

فبدا الحى الذى كان يتألق فى الليل كأجمل الأحياء فى الدنيا جمعاء صامتا وموحشا وكئيبا فى النهار ..

وشاهد إبراهيم وهو يسير على مهل القطط تنفذ إلى المطابخ من الأبواب الخلفية وحاول أن يحصى عبر الشوارع الصامته الملاهى الراقصة فى قطاع مخروطى يضم الآلاف المؤلفة منها ويتيه بأجمل بنات طوكيو .. وأجمل الغوانى على الإطلاق ..

ولكن الكآبة التى طالعته بها هذه البنايات فى النهار وصمتها الأخرس رده عن بغيته وعداه الصمت فأحس بالانقباض .. فأسرع خارجا إلى شارع جنزا نفسه قلب المدينة وهناك أحس بأنفاس الحياة وظل يتابع سيره حتى بلغ حى شمباسى ..

وكان يسرع فى مشيته ويضم معطفه على صدره ليحس بالدفء فى يوم بدا شديد البرودة من أيام ديسمبر ..

وأخذت المدينة الضخمة تستيقظ بكل ما فيها من حركة وحيوية دافقة وسرته هذه الحركة فاتخذ جانب الرصيف ليتفادى السيارات المنطلقة كالسهام واختلط مع جموع الناس الوافدة على قلب العاصمة ..

النساء والرجال من كل الأعمار فى الكومينو والزى الأوربى ينطلقون مع إشراق الشمس إلى عملهم وعلى وجوههم بسمة الصباح .. وكان يميز أقدام الفتيات وراءه بحركتهن السريعة الرشيقة فإذا اجتزنه بدت السيقان العارية تتألق تحت المعاطف الأرجوانية ..

وسحره الجو كله .. فمضى فى الشوارع على غير وجهة يستعرض الحوانيت إلى أن وجد مطعما شعبيا جذبه يعرض أصنافه اللذيذة فى الواجهة فدخل ليأكل وكان قد بارح الفندق قبل أن يتناول الإفطار .. واتخذ مكانه .. إلى مائدة قريبة من النافذة المطلة على الشارع ليرى منها العابرين .. وأزاح الستار الخفيف القريب منه وأخذ يحدق فيما حوله .. وكان المطعم مثلث الشكل وقد صفت الموائد وعليها الزهريات .. والأكواب .. فى تنسيق رائع .. وبدت الألوان الزاهية والقناديل المضاءة حتى فى النهار تضفى على المكان جوا حالما ..
وأحس بالارتياح ..

وانحنت أمامه فتاة فى لباس أزرق وقدمت له فوطة يتصاعد منها البخار .. وسألته عما يطلب فمسح يديه ووجهه بالفوطة الساخنة ورفع بصره إلى عينيها وابتسم وطلب عصير البرتقال وقطعة من الجبن وصحنا شعبيا كان موضوعا فى الواجهة ورآه قبل أن يدخل ..

ولما فرغ من الطعام شرب فنجانا من القهوة .. وأخذ يدور ببصره فى الزبائن وكان هناك سلم جانبى صغير يفضى إلى الدور العلوى .. فشاهد بعض الرواد يصعدون إليه .. وينزلون منه ..

وامتلأ المطعم بالزبائن فى مدى دقائق قليلة .. ثم فرغ وبقى إبراهيم مع من بقى منهم فى الدور الأرضى يدخن سيجارة ويتطلع من وراء النافذة إلى الطريق .. وشاهد من مكانه وهو ينفث دخان سيجارته رجلا يتخطى عتبة المطعم فى تردد ثم بصر به يجلس إلى مائدة قريبة منه .. متصلبا فى جلسته وأخذ يدير عينين قلقتين فى المكان وانحنت أمامه الفتاة تسأله عما يأكل بعد أن قدمت له الفوطة المعتادة وطلب صحنا واحدا وأخذ يأكل بسرعة ونهم .. وتعلق بصر إبراهيم به لما رآه يحادث الفتاة بالإنجليزية إذ عرف أنه غريب .. وكانت ملامح وجهه شرقية وخمن أنه هندى أو باكستانى أو إيرانى أو من أى بلد آخر من ربوع آسيا ..
وكان عجوزا يرتدى بدلة اوروبية ..

ولما فرغ من الطعام ظل فى مكانه لا يطرف وشغل عنه إبراهيم بمراقبة المارة فى الطريق .. ثم تنبه على صوت الفتاة وهى تحادث الرجل .. بصوت أرتفع لأول مرة فى جو المكان ..
ورأى وجه العجوز قد احتقن وارتعشت شفتاه ..

وازداد خجله واضطرابه لما لاحظ أن الموجودين استمعوا إلى حديث الفتاة باليابانية .. وأحسوا بحاله وعرفوا أنه دخل المطعم وأكل وليس فى جيبه ين واحد .. يدفع به ثمن الوجبة ..

ومرت دقيقة صمت شخصت فيها الأبصار وتعلقت بالرجل الذى اطرق برأسه واجما ملتاعا وانتقلت الفتاة العاملة فى خلالها إلى السيدة الجالسة على البنك فهزت هذه رأسها مبتسمة .. كأنها اعتادت على مثل هذه الأشياء وأخيرا همست فى أذن الفتاة بأن تترك الرجل يذهب لحال سبيله ..

وفى الحال خرج العجوز من المطعم مخذول النفس .. وشعر إبراهيم وهو يراقبه بالألم النفسى الشديد .. وعلى الأخص والرجل غريب مثله عن اليابان.. شعر بأخوة إنسانية .. وتذكر حالة .. مرت عليه عندما كان يدرس فى باريس منذ عشر سنوات .. وفرغ ما فى جيبه من نقود وانتظر تحويلا على البنك من القاهرة ولكن المبلغ تأخر وصوله فقضى هناك أياما سوداء ..

وكانت صاحبة البنسيون فى كل صباح تخرج حقيبته وتضعها بجوار الباب الخارجى كانت كل صباح تحاول طرده .. تذكر هذه الأيام السوداء وتذكر الجوع الذى يذل النفس البشرية ويعذبها العذاب الأخرس ..

لقد شعر من قبل بمثل لوعة هذا الرجل .. وعذابه وضياعه ..

وبارح إبراهيم المطعم ومشى فى الطريق وهو يحس بغصة فى حلقه وأسرع ليلحق بالرجل ويعطيه ألف ين أو ألفين حتى يتدبر حالته وندم لأنه لم يخرج وراء الرجل فى وقتها .. أو لم يقم بأى حركة ليغطى موقف الرجل المسكين فى المطعم فقد تركه حتى أذلت كبرياءه وإنسانيته فتاة فى عمر حفيدته ..

وظل يبحث عن الرجل مدة ساعة فى كل مكان فلم يعثر له على أثر .. ضاع فى مدينة فى اتساع المحيط ..

وفى أثناء تجواله بحثا عن الرجل اقترب من ملهى « الحريم » .. وشاهد بجوار أبواب الملهى المغلقة وتحت جداره صفا من ماسحى الأحذية من الجنسين رجالا ونساء وراء صناديقهم الزاهية ..

وكان يراهم لأول مرة فسر لمنظرهم الغريب وكان من بينهم فتيات جميلات جدا فزاد تعجبه .. وظل ينقل عينيه من واحدة إلى أخرى كأنه يبحث عن ممثلة تصلح لدور فى رواية سيقوم بإخراجها .. إلى أن استقر بصره على فتاة فى العشرين ربيعا شاقه منظرها فتقدم إليها وراحت تتأمله وراء أهدابها الطويلة وعلى خديها الاحمرار حين وضع رجله على الصندوق .. وكانت ترتدى حرملة زرقاء وتعصب رأسها بمنديل فبدت له كفلاحة مصرية وبدأت فى عملها تحرك الفرشاة برشاقة وعيناها على طفل يحبو بجوارها .. ولم تكن تعرف غير اليابانية فأخذ يخاطبها بالإشارة ما استطاع وكان يود أن يسألها مئات الأسئلة عن ألاف الأشياء فقد بهره جمالها ..

وكان أول سؤال خطر على باله لماذا لا تمثلين فى السينما .. ليس هناك من يحمل مثل وجهك المعبر ..

وأعطاها قطعة فضية من ذات المائة ين .. ولما أرادت أن ترد له الباقى وضعه فى يد الطفل فنظرت الأم إليه بعين شاكرة .. وكأنه أراد بهذه الحركة أن يعوض ما فاته من عدم انقاذه للرجل المسكين .. الذى ضاع منذ ساعات فى زحمة المدينة ..

وظل يلف ويدور فى المدينة الكبيرة .. وكان لا يستغرب أن يموت فيها إنسان من الجوع .. دون أن يشعر به أحد .. فمثل هذه المدينة تموت فيها الأسماك الضعيفة دون ضجة كما يموت السمك فى المحيط ..

وعندما ذهب إلى الفندق ليستريح ساعة قبل الغذاء .. كانت فتاة الفندق سايونارا فى نوبة عملها ..

وسألته كعادتها :
ــ أين قضيت الصباح .. ؟
ــ تجولت فى جنزا .. وفى حى شمباسى ..
ــ وسررت من هذه الجولة .. ؟
ــ أجل .. رأيت أروع المناظر على الإطلاق ..
ــ ولم تذهب لنادى السينما .. ؟
ــ سأذهب غدا ..

وكانت تعرف أنه قدم من القاهرة مع بعثة فنية سينمائية .. وعاد رفاقه إلى القاهرة وبقى وحده فى طوكيو ليستكمل دراسته عن الإخراج فى اليابان ..

كانت قد حملت له غسيلا مكويا وفتحت الدولاب وأخذت ترتب ملابسه بعناية .. وتأملها بعينيه فى شغف .. أعجب بها من اليوم الأول لوجوده فى هذا الفندق .. منذ أسبوعين .. كانت أول من تناول حقائبه .. وأول من حمل له زهرية الورد ورآها دمثة الطباع رقيقة .. وكان يعجب بطريقتها فى تزيين نفسها وتصفيف شعرها كما يعجب برشاقتها وجمال قوامها وبشرتها النضرة وعينيها نصف المغمضتين .. وأحس أنه شغف بها جدا وكان فى الواقع يلف ويدور حولها كما تلف الفراشة حول النار .. ولكن سايونارا لم تكن تبادله حبه أو تقدر عواطفه ..

وكان الفندق من الفنادق المتوسطة وأجره زهيد .. وقد اختاره إبراهيم ليقضى بما معه من نقود أطول أيام ممكنة فى طوكيو ..

وكانت غرفته جميلة .. وكل ما فيها صغير .. السرير صغير .. والدولاب صغير .. والمنضدة صغيرة وكانت مع صغرها تحتوى على كل شىء ..

وكان من عادة إبراهيم ألا ينزل قاعة الطعام فى الدور الأول ليتناول الوجبات إلا فى النادر .. وكان يطلب الطعام فى حجرته لتحمله له سايونارا.. ويجد فرصة لمحادثتها طويلا ..

وسألته :
ــ هل تغديت فى الخارج .. ؟
ــ أبدا وأرجوك أن تطلبى لى الغذاء ..

وخرجت .. وعادت بعد قليل تحمل له الطعام ورأى وهى داخلة الغرفة الصينية تتمايل بين يديها .. فأحس برعشة وانزعج جدًا ..
ولاحظت اضطرابه بجانب عينيها .. فارخت أهدابها ..

وسألها مصفر الوجه :
ــ زلزال ..؟
ــ أجل .. وليس هو الأول ولا الأخير ..
ــ تعنين أنه ستحدث زلازل أخرى ..
ــ بالطبع .. وما أكثر الزلازل فى طوكيو .. إنها تحدث ولا نأبه لها .. هل أنت خائف ..؟
ــ طبعا .. لم أتعود عليها ..
ــ كيف ستتزوج وكيف تحمى زوجتك إذا خفت من شىء بسيط كهذا ..؟
ــ وأنت ألا تخافين ..؟
ــ أبدا ..
ــ إنك تخافين أكثر منى .. وكل إنسان فى طوكيو يخاف ويتوقع حدوث شىء فى كل لحظة ولهذا يوجد عشرون ألف ملهى فى المدينة تعمل إلى الصباح ..
ــ ولكنك تخاف من الأشياء البسيطة إنك تخاف من البرد .. ومن جرح صغير بآلة الحلاقة ومن الطعام .. ومن تلوث ملابسك فى الغسيل .. وتغلق عليك الباب بالمفتاح فى النهار .. !

وغاظه هذا وأخذ يحدق فيها وقد قطب حاجبيه وقال بصوت جاف ..
ــ قد يكون هذا لأننى قلق ومللت حياة الفن .. التمثيل والإخراج وكل ما تأتى به السينما من صناعة .. كل هذا باطل .. ولقد سافرت لأجدد حياتى.. ولكن أحداث العالم تهزنى وأصبحت أخاف ولا أطيق هذه الحياة ..
ــ ومم تخاف ..؟
ــ من الموت فى الغربة .. من السقوط من طائرة .. من الحرب الذرية .. من موت الأطفال الصغار والنساء .. من فظاعة الحروب .. من كل شىء لا نستطيع دفعه .. بأيدينا ولا حول ولا قوة لنا فيه .. فى هذه الحياة ..
ــ وكيف تخلو الحياة من هذا ..؟
ــ نستطيع ذلك إذا أردنا ، لقد قابلت وأنا اتجول فى طوكيو .. وأزور دور الفنون .. الرجال الذين خاضوا الحرب وذاقوا ويلاتها وهم مثل كل رجل عاقل فى العالم يرغبون فى السلام .. لأنهم تألموا كثيرا ..

إن الرجال فى العالم كله لا يرغبون فى القتال ولا يؤمنون بالحرب أبدا .. ولا يمكن أن يفكروا فيها ..

لقد رأيت فى هذه المدينة الكبيرة المتسولين والعجزة والجياع .. وهذا كله نتيجة للحرب .. والسلام سيحمل فى طياته السعادة للبشرية والرخاء والأمان والحرية التى يتطلبها كل إنسان ..

وضحكت سايونارا لحماسته وأحلامه وسألته :
ــ لماذا لا تعمل فيلما عن السلام فى العالم ..؟
ــ سأعمل ..

وتركها تدخل الحمام الجانبى وخرجت بعد أن غيرت الفوط ..

وحملت صينية الطعام وخرجت وأغلقت وراءها الباب .. ونام إبراهيم إلى الخامسة مساء ونهض .. واقترب من النافذة متطلعا إلى الطريق .. كان الطقس باردا وكان الناس يخرجون من المترو .. ومن محطات السيارات وينطلقون فى الشوارع إلى بيوتهم ..

وكانت فى مواجهة الفندق بناية عالية من خمسة عشر طابقا وقد بدت نوافذها البلورية مضاءة فى النهار .. كانت المصابيح كلها مضاءة فى داخل المبنى الذى يضم شركة كبيرة من شركات الإطارات .. ولاحظ الفتيات اليابانيات يحملن الأوراق فى أيديهن ويتنقلن من غرفة إلى غرفة أو يجلسن وينقرن على الآلة الكاتبة .. وكن فى لباس أوربى متأنق وشعرهن الأسود المقصوص .. يبدو فوق رءوسهن كالتاج ولما دخل الليل سمع حبات المطر تقرع البلور فى البنايات الشاهقة وأخذ ظل المصابيح يسبح .. على الأرض المبتلة وظلت الحركة فى الشوارع والطرقات ، على أشدها ..

وكانت السيارات تبدو صغيرة من بعيد وهى تنهب الأرض فى سرعة جنونية .. وظهرت معاطف النايلون تغطى أجسام النساء المارات فى الطريق وكانت شفافة مبهجة تكشف عن جمال الأجسام ورشاقتها ..

أخذت المدينة التى أضيئت كل مصابيحها تسبح تحت الماء المتساقط .. وأحس إبراهيم وهو واقف بجانب النافذة برأسه يرتطم بالزجاج واصفر وجهه ، لقد كان الزلزال أشد عنفا فى هذه المرة لكن فى جزء من الثانية حدث هذا ولو كان نائما أو مستلقيا ما شعر به ..

وقرع الجرس فجاءت سايونارا وطلب شايا .. ولما رأته مصفر الوجه ضحكت ..

وألقى نظرة أخيرة على الماء المتساقط واستدار إليها وأمسك بيدها .. وكانت تبحث بنظرها عن حلمها .. عن الرجل الذى تحلم بمثله الفتاة ولكنها لم تجده فى كل المرات أهلا لها .. وسحبت يدها برفق من يده ..

وقالت بعين ناعسة وهى تحمل الصينية وتأخذ طريق الباب ..
ــ إن ورائى عمل المساء كله .. وكيسا لم تأت اليوم ..
ــ ولكنى أحبك ..
ــ أعرف هذا .. من اليوم الأول ..
ــ وأنت ما شعورك .. ؟
ــ إننى عاملة فى الفندق .. ليس إلا .. وليس مسموحا لى أن أبادل النزلاء عواطفهم ..
وصمتت مستاءة من نفسها ..

واستدارت وانحنت على الصينية برشاقة ولاحظ يديها الجميلتين الدقيقتين والبشرة الناعمة والقميص الحريرى الأزرق الذى يغطى الجسم كله .. واستداره الفخذ وهى تنحنى وتنتصب ..

ومنذ دخلت عليه الغرفة من خمسة عشر يوما وهو يحس بالرغبة فى أن يلامس بشفتيه بشرتها ولكنها كانت ترده فى رفق وفكر فى نفسه أنها مغرورة أكثر مما ينبغى .. أو جميلة جدا وما أكثر النساء الجميلات فى الطريق .. وفى الفندق نفسه ..

وبعد أن صفقت سايونارا وراءها الباب ساد صمت طويل ..

وإستلقى إبراهيم وهو يدخن ثم فكر فى أن يخرج إلى الشارع .. فتناول معطفه وخرج إلى الطرقة فرأى أمامه العجوز المسكين الذى شاهده فى المطعم .. يدخل إحدى الغرف الجانبية وهو يتلفت كالفار المذعور ..

وعجب إبراهيم لأن الرجل يقيم معه فى جناح واحد وما وقعت عليه عيناه من قبل أبدا .. وشعر بالأسف .. ولم يجد غير سايونارا أمامه فعاد إلى غرفته وطلبها وسألها عن الرجل .. فقالت له إن العجوز باكستانى .. وكان رجل أعمال يتنقل فى البلاد .. ثم أفلس أخيرا وتراكمت عليه الديون وضاقت فى وجهه الحياة .. ومنذ ثلاثة شهور لم يدفع أجر الفندق وينتظر دائما العون من الخارج ينتظر أن تأتيه تحويلات مالية وشيكات ويسأل عنها فى كل ساعة .. ولكن لا تأتيه رسائل ولا أى شىء على الإطلاق .. وأخيرا نقله صاحب الفندق من غرفته فى الطابق الثانى إلى غرفة خانقة تمهيدا لطرده من الفندق ..

وسألها إبراهيم ..
ــ وكيف يعيش هذا المسكين .. ؟
ــ لا أدرى ..

ولاحظ إبراهيم أن التأثر بدا على وجه الفتاة وهى تحدثه عن هذا الرجل المسكين حتى ترقرق فى عينيها الدمع ..

وشعر إبراهيم بالكآبة بعد سماعه قصة الرجل .. ولمس أكرة الباب وخرج من الفندق مكروب النفس ..

كان الضوء يرتجف فى الشارع تحت المطر .. وكانت تموجات هائلة من الهواء تصفر ، وشعر بأنه قد تحرر من الكآبة التى أحس بها فى داخل الغرفة .. ومن اسار المرأة التى تقابل حبه بالصدود ، وأرسل بصره إلى انعكاسات الأضواء على الأرض الملتهبة وكان على موعد مع صديق يابانى فى أحد الأندية الفنية فى الساعة الثامنة .. فذهب إليه ومن هناك انطلقا معا إلى ملهى « الكوين بى » ..

وفى الملهى فكر فى جولة صباحية بالمترو .. ليشاهد الريف اليابانى على الطبيعة ..

***

وقبل أن يخرج من الفندق بحث عن العجوز الفقير .. ليحادثه ويعينه بطريقة لا تجرح إحساسه .. ولكنه وجده قد بارح الفندق منذ الشروق ..

واتخذ إبراهيم طريقه إلى المترو الذى يسير تحت الأرض لم يكن يقصد وجهة معينة .. ألقى بعشرين ينا فى الآلة الأتوماتيكية والتقط التذكرة ودخل منها إلى المحطة ..
وركب القطار .. الذى انطلق كالسهم وبعد أن اخترق النفق أصبح يسير على مستوى الأرض .. وسط الريف .. وشاهد إبراهيم البيوت الخشبية الواطئة .. ومزارع الأرز والورود من كل الألوان الزاهية وشجر التفاح وأشجار الكرز وأشجار الخيزران وكلها مزهرة والبالونات الورقية الملونة على واجهات البيوت .. ورءوس الشوارع ..

ورأى اليابانيين فى بيوتهم وقراهم .. فى القطار وفى المزارع وفى الشوارع ، لابسين الكومينو والملابس الأوربية ..

وفكر وهو ينظر من نافذة القطار ويشاهد البيوت والناس .. لقد ألقيت القنابل هنا ودارت الحرب فى طوكيو .. وفى هيروشيما وفى نجازاكى ألقيت القنابل الذرية وحل الموت والخراب والهزيمة .. ومات الألوف من جراء سقوط القنابل وتيتم الأطفال وترمل النساء ولكن الشعب فى مجموعة خرج سليما وعاش .. وفى أقل من عشرين سنة أصبح من أقوى الدول الصناعية فى العالم ..

ومثل هذ الشعب سيعيش فى آسيا ويظل مزدهرا .. كما تعيش الهند والصين وسيلان واندونسيا ويعمل للسلام .. لأن الحرب دمار وفناء ..

وتصور القطار منطلقا به فى الهند والصين وباكستان وسيلان واندونسيا .. وكل البلاد الجميلة التى تحررت من رق الإستعمار ..

وأغلق عينيه ليتأمل الحلم كله .. حين فتح عينيه وجد يابانيا ربعا غليظ العنق يتأمله فى سكون وكان يرتدى كومينو أسمر وله لحية مدببة ..

وقال له إبراهيم بالإنجليزية :
ــ إن الريف فى بلادكم جميل .. فنظر إليه اليابانى ضاحكا .. ولم يفهم لأنه لا يعرف الإنجليزية ولكنه حنى رأسه مرتين ..

كان بالأخوة الحبيبة يعرف أن الغريب يثنى على بلاده ..
وكان اليابانى يود أن يشرح لإبراهيم ما يراه حوله .. المحطات .. وأسماء القرى التى يخترقها القطار وكل ما يشاهده من ريف ساحر ، إن التفاح الجميل يزرع هنا .. وكذلك الكرز والبرقوق .. وكل الفواكه الحلوة التى أكلها فى طوكيو ..

وأحس بسحر الأخوة وانطلق مع القطار ونسى نفسه كانت البهجة تحيط به من كل مكان ..

ولما رجع بالقطار التالى إلى قلب طوكيو .. أحس بأن روحه .. قد ردت إليه ..

ولما خرج من النفق نظر إلى حذائه وأحس بالرغبة فى أن يشاهد اليابانية الجميلة ويضع قدمه على صندوقها الزاهى الألوان ..

ووجد بجوارها شابا مقطوع الذراع يحتضن الطفل .. ولما اقترب منها إبراهيم ابتسمت وحدثته بالإشارة وبما تعرفه من كلمات إنجليزية قليلة أنها تزوجت من هذا الشاب ..

وأدرك أنها ظلت تبحث عن الأمان حتى وجدته .. وتمنى لها السعادة .. ووضع فى يد الطفل مائة ين .. وتركها وهو يحس بأنه ليس فى حاجة لأن يذهب إليها مرة أخرى ..

ودخل غرفته فى الفندق وهو يحس بأنه كان يحب هذه الفتاة العاملة فى الطريق كما أحب سايونارا وربما أكثر من سايونارا .. ولكن سايونارا قريبة منه دائما .. وأبدا تحرك فيه جذوة النار ..

وبحث عن الرجل الباكستانى فلم يجده قد عاد .. فتغذى إبراهيم ونام إلى العصر ..

وفى الليل خرج إلى حى جنزا المتألق وكانت المدينة كلها ترقص وتستقبل العام الجديد وفكر أن يشترى هدية جميلة لسايونارا ورأى مئات الأشياء الجميلة واحتار فيما يختار .. ثم رأى أن يستدرجها بالحديث فربما أبدت له رغبتها فى شىء معين ..

ولما فاتحها فى الأمر فى الليل .. وكان على أهبة أن ينام ..
سألته كالمستغربة :
ــ ستشترى لى هدية .. ولماذا .. ؟
ــ لانى أحبك .. وستظل هذه الأيام أجمل أيام حياتى ..
ــ وما الذى اخترته .. ؟
ــ رأيت أشياء كثيرة .. ولهذا أسألك ..

وفكرت .. ثم قالت بهمس :
ــ أعطنى النقود وأنا اشترى لنفسى ..

وأخرج ورقتين كل واحدة بخمسة آلاف ين ووضعها فى يدها واهتزت من الفرحة كانت تقدر أنه سيعطيها ألف ين فإذا به يقدم لها عشرة آلاف ..

ونظرت إلى الورقتين فى فرحة كانتا جديدتين ولاحظت عليهما كتابة لم تفهمها ..

ــ ما هذا .. ؟
ــ إنى أسجل اسمى بالعربية على بعض الأوراق المالية التى فى جيبى كتذكار .. وهات الورقتين لأكتب عليهما أسمك أيضا بجوار أسمى ..
ــ لقد تضاعفت قيمتها بتوقيعك ..
وضحك .. وطوت النقود فى صدرها ..

وقالت بنشوة :
ــ والآن سأعد لك حماما تركيا .. قبل أن تنام وأدلك جسمك بعد البخار..

وأمسك بيدها .. فى غمرة نشوتها .. وفى سكينة لذيذة احتضنها .. وقبل شعرها وعنقها وشفتيها وشعر فى أعماقه بالإحساس الجميل بالحياة وتركت نفسها بين ذراعيه .. وكان خلفهما الباب المغلق ..

وفى الصباح .. رأى إبراهيم العشرة آلاف ين وعليها توقيعة فى يد الرجل العجوز المسكين وكان يتقدم بهما إلى كاتب الفندق ليدفع الحساب وكان فى حالة من النشوة تدل على أنه قد عاد إلى الحياة ..

================================
نشرت القصة بمجلة آخر ساعة 16/5/1962 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من اليابان " من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
================================

قصة الصورة الناقصة




* قصص من اليابان مكتبة مصر 2001



الصورة الناقصة

قصة محمود البدوى

ركبت المترو ذات ليلة من نفق جنزا .. وكنت أود أن أقوم بجولة ليلية تحت المدينة الكبيرة .. وأرى ضواحى طوكيو تسبح تحت أضواء الأرض والسماء .. أرى الفوانيس الحالمة على واجهات المنازل ترسل الأنوار الحمراء والزرقاء .. وتحكى بأشكالها قصص الأساطير ، والبالونات من كل الرسوم والألوان تشع بالأنوار ويتساقط عليها المطر .. فيصقلها ويزيدها توهجا وبهجة .. ونزلت من القطار .

ولما وصلت نهاية الجولة .. غرقت بكل حواسى فى هذا الجمال .. ونسيت نفسى حتى انقضى جزء كبير من الليل .

ووجدت مطعما على الطريق .. وكنت أحس بالجوع الشديد .. وأخاف ألا أجد طعاما فى الفندق الذى نزلت فيه فى مثل هذه الساعة من الليل .

فدخلت المطعم .. وطلبت وجبة عشاء يابانية كاملة .. وأحسست بالدفء والجمال حولى .. فأكلت متمهلا .. ولما فرغت من الطعام .. وخرجت إلى المحطة .. وجدت أن القطار الأخير قد مر منذ أربع دقائق .. فاستأت وتملكتنى الحيرة ..

وأخذت أروح وأجىء على الرصيف .. وأنا أفكر فى وسيلة أعود بها إلى المدينة .

وخرجت إلى الشارع لأسأل رجل البوليس .. وكانت المنطقة كلها لا تزال تتلألأ بالأضواء الحمراء والخضراء والزرقاء .. كأنها حبات الزمرد .. والياقوت .. والمرجان .. على صدر حسناء .

والحوانيت لا تزال ساهرة .. والحركة فى الشارع المجاور للمحطة على أشدها .. وشاقنى المنظر كله وأخذ يلبى .. ولكننى أحسست بوطأة البرد وأنا فى العراء .. وتحت السماء المقرورة .. فتحركت أحتمى بالمساكن .. ولم أر أحدا من رجال البوليس أمامى ، ورأيت شابا يتحرك فى الطريق ..

فتقدمت إليه وسألته بالإنجليزية :
ــ ألا توجد قطارات الآن إلى جنزا ..؟
ــ آخر قطار مر منذ لحظات .
ــ والسيارات ..؟
ــ تستطيع أن تركب تاكسى .. ولكن هذا سيكلفك أكثر من ألف ين .. وتستطيع بأقل من هذا المبلغ أن تقضى الليل هنا .. وفى الصباح تذهب بالقطار إلى حيث تريد ..
ــ أتوجد فنادق رخيصة هنا .. فليس فى جيبى الآن .. سوى " ينات " قليلة.
ــ يوجد فندق واحد .. وستذهب إليه وأرجو أن يروقك ..
ومشيت مع الشاب صامتا .. ثم أخذنا نتحدث وقطعنا جولة كبيرة .. ولما بعد بى عن الشوارع الرئيسية ودخل فى الحوارى الضيقة القليلة الضوء المملوءة بالحانات وأماكن اللهو . توجست منه شرا .. وخشيت أن يكون قد تصورنى أمريكيا .. وأنه يقودنى الآن إلى الهلاك .. فعرفته بجنسيتى ..

وقال مبتسما :
ــ أعرف أنك من الشرق ..
ــ من مصر .. ونحن أصدقاء .. ونحبكم .
ــ هذا طبيعى .. ونحن نحبكم أيضا ..
ــ بلادكم جميلة .. كأنما يرسم خطوطها وألوانها رسام عبقرى .. كنت أتوقع أن أرى الثلوج لأرسم لوحة للشتاء ..
ــ إنها لا تثلج الآن انتظر شهرا آخر .. هل أنت رسام .؟
ــ نعم رسام .. ورسمت مشاهد حية .. من حى جنزا .
ــ طوكيو كلها فى هذا الحى .. هل أعجبك ..؟
ــ شىء فوق الخيال .. اعتدت أن أشرب القهوة كل صباح فى مقهى صغير لا يتجاوز حجمه أربعة أمتار .. ولكن أى جمال فيه .. وأى فن .. وأى رسوم على الجدران وأى لوحات .. وأى فنان وضع تصميم المكان ..
ــ يوجد كثير من الفنانين فى طوكيو .. وتستطيع أن تزورهم وترى أعمالهم ..
ــ هل الفندق بعيد ..؟
ــ لا .. لقد اقتربنا منه ..

ودخلنا شارعا صغيرا .. على أبوابه الفوانيس الزرقاء .. وبه أكثر من مرقص ومقهى ورأيت فتاة تقف وراء باب زجاجى دون حركة .. وتصورتها رسما على الزجاج .. فوقفت أمامها . من الخارج .. أتأمل .. فلوحت لى بيدها تدعونى للدخول .. فوقفت مبهوتا ..

وقال لى الشاب :
ــ أتحب أن تدخل ..؟
ــ سأرى الفندق أولا ..

ورجعنا مرة أخرى فى تيه من الشوارع الضيقة .. وشعرت بقلبى يدق بعنف شعرت بالخوف الحقيقى الذى ينتاب الغريب وهو يرافق شخصا لا يأمن جانبه .. وسواء أكان هذا الخوف له سبب معقول .. أو ناتج عن تلف فى الأعصاب .. فإننى أحسست برعشة .. وغرقت فى دوامة من الرعب القاتل ..

وأغمضت عينى برهة ثم مشيت مع الشاب .. وأنا أقول فى نفسى لا بد مما ليس منه بد ..

ولم نبعد فقد دخلنا مرة أخرى فى صف من المنازل الصغيرة المدببة السقوف وعلى واجهاتها الفوانيس .. واجتاز بى عتبة صغيرة من الرخام .. وصعدنا سلمين ثم توقف كاتو .. وأخذ يخلع نعليه .. وأشار بأن أحذو حذوه.. فخلعت نعلى .. واجتزنا صحنا مفروشا بالحصير الجميل ..

واستقبلنا رجل فى الأربعين مربع عريض الصدر .. وكلمه كاتو باليابانية.. فقادنى الرجل وهو يرحب إلى غرفة مفروشة بالحصير .. والحشيات والوسائد.. وكانت المرتبة مفروشة .. فوق الحصير .. وأرض الغرفة خشبية وترتفع عن الأرض بمقدار ثلاثين سنتيمترا ..

فسررت جدا من هذا الجو اليابانى الخالص وسألنى صاحب النزل :
ــ أعجبتك الغرفة ..؟
ــ جدا .. إنها جميلة للغاية ..
ــ كنت أخشى ألا تروقك .. لأنه لا يوجد بها سرير ..
ــ بالعكس .. إنها أعجبتنى أكثر .. كم أجرها فى الليلة ..؟
ــ ألف ين ..
ــ حسن .. والشاى والإفطار ..
ــ هذه الأشياء كلها رخيصة هنا .. ولا تكلف كثيرا .. واطلب ما تحب ..

ووضعت يدى فى جيبى .. وأعطيت "كاتو" مائة ين .. فأخذها وانصرف مسرعا ..

وسألنى صاحب النزل إن كنت أحتاج لشىء وكنت أحس بالبرد فطلبت بعض الشاى .. ودخلت علىّ فتاة جميلة تحمل صينية الشاى ووضعته أمامى على الحصير وصبته فى الفنجان .. وأخذت ترحب بى بالكلام والابتسام وانحناءة الرأس .. وأدركت أنى لا أعرف لغتها فزاد ابتسامها .. ووضعت لى الوسائد .. وخرجت وأخذت أتهيأ للنوم .. ولم يكن معى بيجامة .. فخلعت سترتى وتمددت على الفراش .. ولكننى لم أنم .. وكان النزل هادئا .. وليس به أدنى حركة تدل على وجود نزلاء .. آخرين ..

وأغمضت عينى لأنام .. فعادت إلى ذهنى صورة الفتاة الواقفة على باب الملهى الزجاجى .. وكنت أعرف أن المكان يبعد عنى كثيرا ..

ووجدتنى أنهض وأرتدى السترة .. وأخرج .. وقلت للرجل صاحب المنزل إننى ذاهب إلى مرقص قريب وسأعود .. وأعطيته أجر الغرفة مقدما حتى لا يتصور أننى أخدعه ..

وأسرعت إلى الحانة .. ودفعت بابها الزجاجى .. ووجدت ساحتها صغيرة وفى وسطها بار دائرى .. يقف فيه خمس فتيات .. يقدمن الخمر لثلاثة من الزبائن وكان الضوء ضعيفا .. والدخان يملأ جو المكان .. والهدوء يخيم .. واستقبلت بابتسامة وانحناءة من جميع الفتيات .. ولم أكن سكيرا .. ولا أحب شرب الخمر .. ولا أدرى لماذا دخلت وأنا أعرف أنها حانة .. والواقع أننى لم أجد مكانا غيره ساهرا فى الحى كله .. وترددت قليلا أين أجلس .. وظللت واقفا .. ثم رأيت سلما خشبيا صغيرا .. ملاصقا للفتاة الجالسة على الخزينة.. فصعدته سريعا .. ووجدت فى الدور العلوى .. نفس البار الدائرى .. ونفس الضوء الخافت .. ونفس الرسم على الجدران وكان فى البار ثلاث فتيات فقط .. ورجل واحد .. أخذنى بنظرة سريعة ثم عاد لكأسه ..

ووجدت نفسى أجلس أمام واحدة من الفتيات .. ولعلها جذبتنى بقوة المغناطيس الذى فى عينيها وكانت ترتدى صديرا من الصوف الرمادى .. وبنطلونا أحمر .. كأى فتاة أمريكية من برودواى .. وجلست أنظر إلى عينيها برقة .. كانت وادعة .. ولا يبدو عليها أنها من فتيات البارات .. وأدركت أننى لهذه الوداعة اخترتها .. الغريب يلجأ دائما إلى منطقة الأمان .. ووضعت الفتاة أمامى صحنا من البطاطس المحمر .. ولم تسألنى ماذا أشرب .. ولعلها عرفت أننى لا أشرب على الإطلاق .. وكانت عيناى تسبحان فى الزجاجات التى أمامى تقرأ الأسماء فى هذا الضوء الخافت .. ورأيت بالونة زرقاء مكتوب عليها .. نبيذ وحسان .. فى كل الأركان الدائرة .. وتذكرت أن هذا هو اسم البار ..

وعاد نظر الفتاة على وجهى وسألتنى برقة :
ــ لماذا لا تأكل .. أأجىء لك ببعض الكبد والقلوب المشوية ..

فقلت وأنا أنظر إلى عينيها ..
ــ أجل .. مع كوب من النبيذ ..
ــ أحمر ..؟
ــ أحمر ..

ووضعت الكوب أمامى .. ونظرت إليها .. لم أر فتاة فى مثل جمالها .. لا فى بوخارست ولا فى وارسو .. ولا فى برلين .. ولا فى بودابست .. ولا فى استنبول .. ولا فى هونج كونج ..

وقلت لها وأنا أرفع الكوب إلى شفتى :
ــ ألا تشربين شيئا ..؟
ــ سأشرب ..

وجاءت بشىء أحمر فى قعر الكوب .. ورفعته إلى شفتيها .. تناولت عشر قطرات لا أكثر .. ونظرت باسمة .. أدركت أنها لا تشرب الخمر .. وتعجبت لوجودها فى هذا المكان .. وأدركنى العجب أكثر .. منذ محادثتها فقد بدت على ثقافة عالية ولم تكن تدفعنى إلى الشراب أو تطلب لى المزيد منه كفتيات الحانات .. بل كانت تتركنى بكل حريتى .. وعندما طلبت لها كأسا أخرى رفضت ..

وقالت :
ــ واحد يكفى .. المهم أن نجلس ونتحدث ..

وسألتنى :
ــ متى جئت طوكيو ..؟
ــ منذ يومين ..
ــ ونازل فى أى فندق ؟.
ــ فلم أتذكر اسم الفندق وبحثت فى جيوبى عن البطاقة المكتوب فيها الاسم فلم أجدها .. وفتحت فمى كالأبله ..

وقلت لها :
ــ لا أعرفه ..
فضحكت ..
ــ أتعرف كيف تذهب إليه وحدك ..؟
ــ أبدا .. اعتدت أن أعطى البطاقة للسائق .. وهى مكتوبة باليابانية ..
ــ هل اسمه .. إمبريال .. نيوكوهاما .. جيانسو .. نيكاسيو .. دايتشى .. الإمبراطور ..

وعددت لى مئات الأسماء .
ــ أبدا ..
ــ وكيف ستهتدى إلى حوائجك ..
ــ فى الصباح .. سأتصل بشركة السياحة .. وهى التى تعرف اسم الفندق ..

وعاد إلى قلبها الضحك ..
ــ إن هذا ممتع .. وأين ستقضى هذه الليلة ..؟
ــ فى فندق قريب منكم على الناصية ..
ــ آه .. عرفته ..
ــ هل أطمع فى جولة حول المدينة بصحبتك غدا .. ؟
ــ آسفة لا أستطيع ..
ــ وكيف أراك ..؟
ــ هنا فقط ..
ــ إن بلدتكم جميلة .. لا يشبع الإنسان من جمالها ..

وهنا رن صوت ..
ــ إنك لم ترها وهى مضروبة بالقنابل .. كانت حطاما .. ضربها الأنذال بكل ما لديهم من قوات الجو ..

وتلفت فوجدت الرجل الذى كان يسمر هناك فى الظلام .. ولقد نسيته.. وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقة ..
ــ إن هذا كان ردا على بيرل هاربرد .
ــ لا .. إنك لم تر طوكيو .. فى ذلك الحين .. لم يحدث لمدينة كما حدث لها من الضرب الوحشى المركز ..
ــ ولكنها الآن تبدو كأجمل الحسان ..
ــ بقوة سواعدنا بنيناها من جديد .. إن طوكيو .. هى اليابان كلها .. هات كأسا للسيد ياهينا .. ولنشرب نخب طوكيو .. ونخب الشرق كله ..

فرفعت الكأس إلى شفتى ورفعته الفتاة .. وكانت تبتسم .. وقبل أن ينصرف الرجل انحنى لى ثلاث مرات .. فنهضت عن الكرسى وأخذت أرد له التحية بعدد انحناءاته ..

ودخل بعده أربعة شبان المكان .. وكان أحدهم يرتدى معطفا قصيرا أبيض.. فرأيت وجه الفتاة يتجهم .. وجلسوا حول الفتاتين الأخريين سميا ونلدا يصخبون .. ويضحكون .. وانتهى الجو الحالم الذى كنا نعيش فيه منذ لحظات .. وشعرت بالضيق .. ولاحظت علىَّ هينا الضجر ..

فسألتنى :
ــ شعرت بالتعب ..؟
ــ نعم ..
ــ الأحسن أن تستريح ..
ــ وكيف أراك ..
ــ فى انتظارك غدا ..

وأخرجت ورقة بخمسة آلاف ين .. وتناولتها الفتاة وهبطت بها سريعا وسمعت صوتها وهى تحاور صاحبة الحان .. وعادت وقدمت لى أربع ورقات كبيرة وبضعة ينات صغيرة ..

فقلت لها متعجبا ..
ــ إنك لم تأخذى شيئا ..
ــ هذا هو حسابك .. إنك لست بسكير ..

ونظرت إلى عينيها طويلا ..

فسألتنى :
ــ ما اسمك ..؟
ــ لطفى ..
ــ إسمى هينا ..
ــ اسم جميل ..

ونظرت إلى صورة عروس يابانية تغنى بالقيثار .. فى ركن من المكان وقلت لها :
ــ فكرت فى أن أرسمك بالكومينو .. وأرجو ألا ترفضى لى هذا الطلب ..
ــ غدا سنتحدث فى هذا .

وأعطتنى يدها ..
فرفعتها إلى شفتى ..

وعندما هبطت إلى الدور الأرضى نظرت إلى صاحبة الحان طويلا وأنا خارج ..

وقالت برقة :
ــ شرفتنا يا سيد ..
وانحنت الفتاة الواقفة على الباب ..

وقالت :
ــ شكرا يا سيد .. شرفتنا وآنستنا ..

وخرجت إلى الطريق .. وأمامى أضواء قوس قزح .. فى السماء والأرض..

***

وفى المساء التالى لبست « هينا » ثوبا آخر وبدت مجلوة كالعروس من غير أصباغ .. أو أحمر على الشفاه ..

وقالت :
ــ هل اهتديت إلى الفندق ..؟
ــ أجل .. وأفكر فى نقل حوائجى إلى هذا الحى ..
ــ لماذا .. ؟
ــ لأكون قريبا منك ..
وضحكت ..
ــ عشقتنى بمثل هذه السرعة .. إننى أقيم هناك مثلك ..
ــ ولكنك تعملين هنا ..
ــ يمكنك أن تجىء من السابعة وتبقى إلى ما بعد منتصف الليل .. وفى هذا الكفاية ..
ــ كما تحبين ..

ولم يكن بالمكان العلوى أحد سوانا .. وكانت الفتاتان الأخريان أكثر رقة مما قدرنا .. فقد تركانا وحيدين وهبطتا إلى الدور الأرضى ..

وقلت للفتاة ..
ــ أى صورة ..؟ أرسمك .. وأنت لابسة الكومينو ..
ــ ليس عندى كومينو ..
ــ سأشتريه لك .. وأعطيك خمسة آلاف ين على الرسم ..

وخرجت منى هذه الكلمات كالقذيفة بحكم الصنعة .. فاحمر وجهها ..

فتركتها دقيقتين ثم سألتها :
ــ ما رأيك ..؟
ــ دعنى أفكر ..
ــ ها هو عنوان الفندق .. وسأنتظرك فى البهو غدا فى الساعة الحادية عشرة صباحا ..
ــ سأجىء فى الرابعة بعد الظهر ..
قالتها برقة .. وكنت أود من فرط السرور أن أطوقها بذراعى ..

***

وفى الساعة الرابعة مساء رأيتها تدفع الباب .. كانت تلبس جاكتة وجونلة زرقاء وزادها هذا نضارة .. واستقبلتها فرحا .. وكانت خجلى بعض الشىء ثم زايلها الخجل بعد أن شربنا الشاى وتحدثنا .. ثم صعدنا إلى غرفتى.. وأريتها الكومينو الذى اشتريته لها فسرت به .. ودخلت وراء الستر لتخلع ثوبها وتلبسه .
وعندما خرجت كانت أجمل ما وقعت عليه عيناى .

وجلست أمام المرآة تسرح شعرها على الطريقة اليابانية وتبدو فى زينة مناسبة للرداء ومنسجمة معه ..

وأمسكت بالفرشاة وأخذت أعمل .. وأستريح وأجعلها تستريح وتسترخى .. حتى كانت الساعة السادسة .. وكانت عليها أن تذهب إلى عملها . فودعتها على أن تجىء غدا لنكمل اللوحة .

***

ولم أذهب إلى الحان فى تلك الليلة .. جلست فى غرفتى .. وهى أمامى على التابلوه .. وكنت أدخن بشراهة .. وأنظر إلى ما تحت الكومينو .. كنت أفكر فى البشرة الناصعة .. وفى صورة لفينوس العارية ..

كنت أفكر فى صورة أضع فيها كل روحى وفنى .

وجاءت فى اليوم التالى فى الميعاد .. وجلست أرسم بسرعة .. حتى أتممت الصورة ..

وقلت وأنا أضع الفرشاة جانبا ..
ــ هل تساعدينى على أن نكمل هذا العمل .
ــ كيف ..؟
ــ أريد أن أرسمك على الطبيعة .. ولا أحد سيراها هنا .. لأنى سأحمل الرسم معى .. ولا أحد يعرفك هناك ..
ــ لا تقل هذا .. لقد خاب ظنى فيك .. هل أنا محترفة ..؟
ــ العفو .. إننى أريد أن أرسم عذراء .. وأرسم الخفر الذى على وجهها.. والخجل الذى فى عينيها .. وأنا أراها عارية .. أربد أن أرسم هذا .. وهذا لا يأتى إلا منك .. فلا تحرمينى من هذه المنحة ..
ــ هناك كثيرات صنعتهن هكذا .. فاذهب إليهن ..
ــ لا .. أنا لا أريد محترفة .. أريدك أنت وسأعطيك عشرة آلاف ين .. لجلسة واحدة .. وأغمضت عينيها فى غمرة الانفعال تناولت يدها وقبلتها .

وهمست ..
ــ سأنتظرك غدا ..
ــ سأجىء يوم الخميس ..

وخرجت ونسيت أن تأخذ الكومينو معها .. فضممته إلى صدرى ..

وفى يوم الخميس جاءت .. وكان العذاب الأكبر لى ولها لأنها رفضت أن تقف عارية تماما .. ورأيت أن أضع غلالة رقيقة على جسمها فى هذه الجلسة.. لأتفادى غضبها وليكون وجهها طبيعيا ومشرقا .. وأرسم فى هذه الجلسة وجهها وجيدها وكتفيها .. وفى الجلسة المقبلة تكون قد اعتادت وأرفع الغلالة وأكمل الصورة ..

وفعلا رسمت نصفها .. وخرجت مسرعة على أن تعود بعد يومين لتكمل الصورة وتأخذ العشرة آلاف ين ..

وفى الصباح كنت أتجول فى المدينة .. وخرجت إلى حديقة مشهورة .. فرأيتها بصحبة رجل أعمى فى ممشى الحديقة .. وكان واضحا أنه والدها .. وبعدت عنها حتى لا ترانى ..

ظللت ألاحظها من بعيد حتى خرجت بالرجل .. وكان عطفها عليه شديدا .. وحنانها لا يصور ..
وظللت وراءهاحتى أركبته الأوتوبيس وغابا عن ناظرى ..

***

وذهبت إلى المشرب فى مساء اليوم نفسه .. فاستقبلتنى باسمة .. وقلت لها قبل أن أجلس .
ــ لقد رأيتك فى الصباح فى الحديقة ..
ــ أعرف هذا وكنت أود أن أحدثك ولكنك زغت ..
ــ والآن أنا أريد أن أشرب كوكاكولا .. أو عصير الليمون ..
ــ إن فعلت هذا سأطرد من هنا ..
ــ وماذا يحدث لو طردت ..؟
ــ سيموت أبى من الجوع ..

وأخضلت عيناها بسرعة .. ونظرت إليها ثم أطرقت .. وفى يدى السيجارة ..

وقالت وهى تبلع عبراتها ..
ــ أصيب أبى بالعمى فى الغارات المدمرة على طوكيو .. وأمى عجوز فوق الستين .. وليس لنا معاش .. أو أى شىء نعيش منه .. ولهذا أنا أعمل فى الصباح والمساء فى مطعم أوتاكا وفى الليل أجىء إلى هذا المشرب .. لأوفر لأبى مبلغا من المال .. ليسافر به .. إلى موسكو .. وهناك يسترد بصره فى معهد " فيلاتوف " .. ولقد وفرت مبلغا ، والخمسة آلاف التى أخذتها منك مع العشرة آلاف التى سآخذها غدا ، أكملت ثمن التذكرة وعجلت بسفره إلى هناك .. فأنت الآن إنسان لا ينسى .. جزء من حياتى وسعادتى ..

وشعرت بقلبى يتمزق .. وقلت لها :
ــ أرجو أن تسكتى ..

وأخذت أدخن .. وأحكى لها ما شاهدته ورسمته فى « جنزا » وفى الضواحى وأريتها بعض الرسومات ..

فقالت باسمة :
ــ غدا لن تكون وحدك .. سأرافقك فى كل جولة لأنه يوم راحتى ..

وتصورت نفسى وهى بجوارى رشيقة جميلة كالطاووس .. بشعرها وحسنها .. جالسة معى فى السيارة .. والمترو وعلى العشب فى الحدائق .. وتحت السماء والمطر يتساقط علينا .. وأنا أحميها منه بمعطفى وصدرى .. وشعرت بسعادة .. غيبتنى عن وعيى ..

وفجأة سمعت موسيقى راقصة فى الدور الأرضى .. وسمعت بعدها ضجة وصعد بعض الشبان اليابانيين إلى الدور العلوى الذى نجلس فيه .. ورمقنى واحد منهم بنظرة قبل أن يجلس .. وطلبوا الشراب .. وجلسوا جميعا يشربون ويصخبون ولم تغير "هينا" مكانها ، ولم تقدم لأحد منهم شيئا ، تركتهم جميعا للفتاتين الأخريين ..

وجلست حوالى ساعة وأنا أقدر خروجهم ، ولكنهم بقوا يصخبون .. وكان نظرهم يقع على ، ثم يعودون إلى سمرهم .. وحديثهم ..

ووعدت " هينا " على لقاء فى الصباح .. ثم أخرجت محفظتى وأعطيتها ورقة مالية لتدفع الحساب .. ونزلت إلى الخزينة ولبست معطفى .. ونزلت السلم .. ولما رأيتها لا تزال واقفة على الكيس .. تجادل صاحبة الحان .. انتظرت على السلم .. وكان وجهى إليها .. وسمعت حركة شديدة من الشبان فى الدور العلوى ، ثم ظهر واحد منهم على البسطة العليا من السلم ، وكان يرتدى معطفا أبيض .. ورآنى فأخذ يهبط السلم ببطء وحولت وجهى عنه .. وأنا أحس بهم جميعا يهبطون ، وراقنى منظر رجل سكير أخذ يغنى .. وقد أغلق عينيه .. وفجأة أحسست بيد " هينا " تجذبنى بقوة وتدفعنى بعيدا عن السلم .. وسقط الشاب لابس المعطف بكل قوة .. مدحرجا ومقلبا حتى وصل أرض الحان ..

وهبط من كان وراءه .. وضرب " هينا " على وجهها بوحشية .. فلم أملك نفسى وصفعته وتشابكنا فى عراك دموى .. واختلط الحابل بالنابل .. ورحت فى غيبوبة ..

***
ولما أفقت وجدت نفسى مستريحا على كرسى ببدلتى .. وذراعى مربوطة إلى صدرى وكانت " هينا " بجوارى وعلمت أننى فى بيتها .. وأنها حملتنى بعد تضميد الجرح إلى هنا .

وقالت لى باسمة :
ــ لماذا ضربته .. كانوا سيقتلونك ..؟
ــ لو لم أفعل هذا لانشل ذراعى من الغيظ ..
ــ أعرفت لعبتهم ..؟
ــ أجل .. كان سيهبط علىّ من فوق بكل قوته كأنه لا يكاد يتماسك من السكر .. فنقع معا على الأرض ..
ــ وفى أثناء ذلك تطير المحفظة بكل ما فيها من نقود ..
وتحسست جيوبى ..

وقلت لها :
ــ لقد طارت فعلا ..
ــ لا تحزن .. سنستضيفك هنا حتى تسافر ..
ــ والحمد لله .. إن تذكرة العودة محفوظة فى الفندق ..

وضحكت هينا ..
ــ عظيم .. إذن لم تخسر شيئا من جراء هذه المعركة ..
ــ لن أدخل حانة مرة أخرى فى حياتى حتى وإن كنت أنت الساقية ..
ــ وأنا لن أكون ساقية بعد اليوم .. سأكتفى بعملى فى المطعم ..

وتناولت يدها .. وضغطت عليها .. ورأيت عينيها تتألقان بالجمال والحب وظلت ممسكة بيدى .. ثم دفعتها فى جيبها وأخرجت المحفظة ووضعتها فى مكانها من سترتى ..

وقالت برقة :
ــ والآن متى نكمل الصورة ..؟
ــ لن نكملها ..
ــ كيف ..؟

نظرت إلى مستغربة ..
ــ لقد قررت هذا .. قبل أن يقع الحادث .. إن أعظم صورة للفنان هى التى لم تكمل .. لأنها الصورة الوحيدة التى تعيش فى قلبه ووجدانه .

وتناولت بذراعى السليمة المحفظة وأعطيتها ورقتين بعشرة آلاف ين .. ورفضت أن تأخذ المبلغ .. وتحت الإلحاح الشديد قبلت .. ولما اقتربت من ذراعى الجريح ومسحت عليه بيدها .. وأعطتنى شفتيها فى غمرة عواطفها الجائشة .. قبلت شعرها .. وجيدها .. ولم أشأ أن أطفئ النار المشتعلة فى قلبى..

=================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب 16/11/1958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص محمود البدوى " الأعرج فى الميناء " 1958 وبمجموعة قصص من اليابان من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ سنة 2001مكتبة مصر بالقاهرة
=================================






قصة ليلة فى طوكيو





* قصص من اليابان مكتبة مصر 2001


ليلة فى طوكيو
قصة محمود البدوى


قال الكاتب الأمريكى توماس وولف : إذا أردت أن تعرف « نيويورك » فعش فى باريس ، وفى هذا القول اجتمعت كل الحقيقة .. من المدائن والناس..

وأردت أنا ( والقياس مع الفارق بينى وبين الروائى العظيم ) .. أن أعرف القاهرة فعشت فى « طوكيو » .. وحرام أن تظلم القاهرة فى هذه الأيام ، لأنها تمر بمحنة سوء الإدارة .. ومن هذه النازلة تتفرع جميع المساوئ .. سقطت بعض العمارات العالية فى القاهرة ، والذى شيد البناء ساقط . وكل من كان له اتصال بهذا العمل ساقط .. سقطت هذه العمارات ، ولكن لم تسقط الأهرامات التى شيدت منذ آلاف السنين لم يسقط منها حجر واحد .. ولم تسقط قلعة صلاح الدين .. ولم يسقط القضاء العالى .. سيظل شامخًا لأنه فخر مصر .. ورمز مصر الحضارة ، وحصن مصر الأمين .

حرام أن تقارنها بطوكيو مع التشابه الكبير فى عدد السكان .. وعدد الرءوس التى تتحرك فى الشوارع والميادين .. حرام على قاهرة المعز الشامخة بنيلها العظيم .. وبكل مأَذنها ، وقبابها .. وبهجة أنوارها .. حرام أن تقارنها بطوكيو لأن قاهرة المعز .. غشاوة فى هذه الأيام وبعد أن تنجلى هذه الغشاوة .. قارن ما شئت وقارن .
التقيت بالطبيب اليابانى تاشيو فى مدينة « هانشو » بالصين فى المستشفى الضخم الذى يعالج جميع المرضى بغير عقاقير .. وتحدثنا عن فعل الطبيعة فى جسم الإنسان .. وعن الأفذاذ من الأطباء الذين برزوا فى هذا المجال .. ولما علم بإعزازى « بأكفادن » قربنى إليه أكثر ، ودعانى إلى زيارته فى المستشفى الذى يعمل فيه بمدينة « طوكيو » ..
ووجدته فى انتظارى على باب المستشفى .. ومعه طبيب فى مقتبل العمر فى مثل سنى ، خصصه ليتجول معى فى أرجاء المستشفى لأنه فى يوم راحته ويتقن الإنجليزية ..

وطالعنى وأنا داخل إلى أجنحة المستشفى السكوت المطبق ، ودقة النظام ، واستعمال كل وسائل العلم فى كل خطوة .. ومراعاة خبايا النفس البشرية ومتطلباتها ، فالإضاءة مختلفة فى كل جناح .. وكذلك الممرضة والطبيبة .. فهن مختلفات فى الزى والسلوك ودرجة الجمال ..

وقال لى الطبيب المرافق بعد جولة استغرقت ساعة :
ــ حدثنى الدكتور تاشيو .. برغبتك فى تحليل الدم ..
ــ نعم .. وأرجو هذا ..

ودخلنا فى جناح طويل بلون البنفسج كل ما فيه يلمع .. وقدمنى المرافق إلى طبيبة شابة ..

وخلعت معطفى الأبيض المعقم وجاكتتى وقميصى .. وأسلمت لها ذراعى ..

فقالت برقة :
ــ سنأخذ الدم مرتين .. وبين كل مرة زمن ..

ولاحظت وهى تمسك براحتى أن ظفر الإصبع السبابة .. مهروس ..

فقالت وهى منكسة رأسها :
ــ هناك ظفر جديد ينمو مكان هذا .. انظر ..

فقلت وأنا مأخوذ بعظمة الخالق !
ــ سبحان الخلاق العظيم .. إننا بكل علمنا وتقدمنا فى الطب والجراحة ، والفلك والدوران حول الأرض والصعود إلى القمر .. لا نستطيع أن نخلق مثل هذا الظفر .. وهو أضأل شىء فى جسم الإنسان ..
ــ هذا حق .. فلماذا يشمخ الإنسان بأنفه ويتكبر !!

وقالت وهى تضم ذراعى دون أن تنظر إلى وجهى :
ــ وحدك فى طوكيو .. ؟
ــ نعم ..
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ رائع .. هناك الفتيات الجميلات يعملن فى كل الطوابق .. !
ــ ولكنهن ينصرفن فى الليل .. بعد العاشرة !
ــ ويعدن لإيقاظك فى الصباح .. فغيابهن قصير .. !
ــ ولكنى مشغول بعملى إلى درجة تفقدنى كل تسلية ..
ــ مهما يكن عملك .. ولكن خسارة أن تكون بطوكيو .. ولا ترى قصر الإمبراطور .. ولا ترى « جنزا » فى الليل .. ولا تزور « فوجى » ..
ــ زرت هذا كله فى المرة السابقة ..
ــ إذن فقد جئت إلى هنا من قبل .. ؟
ــ نعم ..
ــ لا شك أنك تحب المدينة .. وإلا ما كررت الزيارة ..

وابتسمت بوداعة .. ووضعت عينة الدم مع بطاقة صغيرة باسمى وسنى فى طاقة مستديرة .. ونزل كل شىء بشريط كهربائى إلى المعمل .. وجاءت فتاة أخرى أصرت على أن تساعدنى فى لبس ما خلعته من ملابسى .. وقادتنى إلى حيث يوجد الدكتور .. تاشيو ..

وفى مكتب الدكتور تاشيو .. قال لى ..
ــ سنشاهد معًا .. بعد ربع ساعة عملية تدليك للقلب فى الجناح 21 .. وسيقوم الدكتور هيكامو بعملية فى الكلية .. ويمكنك أن تشاهد هذه العملية على شاشة التليفزيون ..
ــ قد أكتفى بعملية تدليك القلب .. لأن عملية الكلية لا يتسع لها وقتى..
ــ كما تحب .. ويمكنك الاكتفاء بعملية الإعداد للعملية الثانية ، وترى كيف تجهز الغرفة ، وفى هذا فائدة كبيرة لك ..
ــ شكرًا عظيمًا .. يا دكتور لكل أريحيتك وسماحة نفسك واهتمامك ..

وكان مريض القلب سمينًا متوسط القامة ، ويبدو فى الخمسين من عمره .. ولم تكن ملامح وجهه يابانية وإن كان ينطقها ..

ومده على طاولة بيضاء بذراعين ، وهو شبه ميت ، وحوله ثلاثة من الأطباء.. وكانت الأنوار فى زرقة ، وفى الغرفة رائحة أشبه برائحة البنفسج .

ووقفت أنا والدكتور تاشيو فى جانب .. وبدأ مسح الجسم بخفة من يد طبيب شاب ، قصير القامة ، هادئ الملامح والطباع .. ثم قامت طبيبة بعملية تدليك القلب .. ببراعة وسرعة .. وخيل إلىّ من سرعة يدها أنها أخرجت مضخة القلب فى يدها ثم ردتها ..

وتنفس المريض وعادت عيناه تسبحان فى الزرقة .. وأمسكت ممرضة برسغة وجست نبضه ..

وخرجنا إلى بهو جميل التنسيق مزهر .. وقدمنى الدكتور تاشيو إلى الطبيبة التى قامت بالعملية فهنأتها بحرارة ..

وسألتها :
ــ هل كل العمليات ناجحة يا دكتورة .. ؟
ــ بالطبع .. إذا كانت للمريض رغبة فى الحياة !
ــ وإذا لم تكن عنده الرغبة .. ؟
ــ لا فائدة من الطب إطلاقًا ..
ــ ما أعظم حكمتك !

وأصرت على أن تقدم لنا الشاى والفطير .. فى صالة المستشفى العلوية ..

ولاحظت من الوجوه التى التقيت بها فى المستشفى والشارع أن اليابانى سيظل يابانيًا فى خلقه وطباعه وسلوكه العام والخاص .. وأنه لا يختلط بأحد.. ولا يحب الاختلاط بالغريب .. وفى طبعه التفرد .. وهو جم التهذيب وسريع الابتكار والحركة ، كما أنه سريع التحول .. وهو ينحنى لك ثلاث مرات إذا أسمعته كلمة حلوة .. ولكن إذا أغضبته وأهنته طعنك بالسونكى .. والمرأة لاتزال تلبس الكومينو .. وتنحنى فى الشارع للسيدة الأكبر منها سنًا .. وتحمل طفلها على ظهرها بطريقة بديعة .. وتتحدث بصوت ناعم كزقزقة العصافير .. وكعاملة فى المتاجر الكبرى ، والفنادق ، والمطاعم ، وقاعات الشاى تسيل رقة وعذوبة .. وكأنها تخرجت فى مدرسة أعدتها لذلك العمل..

وتمشى الوجى فى الطريق .. يعنى بخطوات قصيرة .. كظاهرة مميزة على النعومة والرقة ، وهما من متطلبات الأنثى ..

ولكنك تشاهد إلى جانب هذه من تلبس الزى الأوربى الخالص .. وتقود السيارة بسرعة 100 كيلو فى الساعة .. والجيل الحديث كله من النساء والرجال يتحدث الإنجليزية .. أما كبار السن فندر منهم من يعرفها .. إلا إذا كان يشتغل بالتدريس ومن أساتذة الجامعات .

وشكرت الدكتور تاشيو .. واستأذنت فى الانصراف ..

فقال لى الدكتور :
ــ أتعرف الطريق إلى الفندق .. ؟
ــ نعم .. لقد جئت وحدى ..
ــ إذا اختلطت عليك المعالم فى الليل .. نستطيع أن نرافقك ..
ــ شكرًا .. طوكيو ليست غريبة علىّ .. أعرفها كما أعرف القاهرة .. وسأركب المترو .. وسينزلنى فى شمباسى ..
ــ نعم .. المترو أحسن من التاكس .. لأن المسافة طويلة ..

وسلمت على الجميع .. واتخذت الطريق إلى المترو .. والليل زحف وخيم .. وسماء طوكيو تموج بالبالونات الزرقاء والحمراء والصفراء ، وهى تتلألأ وتسطع فى كل مكان .. وأينما ترفع رأسك تشاهدها تتراقص .

لم تتغير طوكيو عما شاهدته منذ سنوات .. سوى أن العمارات الحديثة انطلقت إلى عنان السماء .. وكثر هذا فى قلب طوكيو .. ولا تزال فى أطراف المدينة المنازل الخشبية القديمة من طابقين ومن طابق واحد .. وهنا يبرز الكومينو فى الطريق والبيت .. ويعد أجمل اجتماع على شرب الشاى ..

المستشفى يقع فى حى هادئ وعلى طريق جانبى ، ولكن لما خرجت منه إلى الطريق العام شعرت بحركة المرور السريعة .. كان المارة يتحركون بسرعة عجيبة ويهبطون من الأفاريز إلى الأنفاق ..

ونزلت درجات قليلة إلى نفق المترو .. ولم يكن فى المحطة أكثر من عشرة أشخاص من الرجال والنساء .. وعللت ذلك بكثرة القطارات التى تمر .

وركبت أول قطار قادم .. ويبدو أنه أحدث القطر التى سيروها على الخط.. فقد كان متأنقًا متألقًا وفخمًا .. ومقاعد العربة من القطيفة الزرقاء ، صفت فى صفين .. المقعد المفرد .. ومن هو على شكل كنبة طويلة .. فاخترت المفرد .. ولم يشعر بدخولى الركاب .. لانشغالهم بحالهم .. وللسكون المطبق على العربة .. وفى المحطة التالية ركبت جماعة امتلأت بهم المماشى .. وما جلسوا حتى عاد السكون .. وبرز راكب واحد من بين ركاب العربة جميعًا .. أحس بوجوده كافة الركاب .. فقد تمدد على كنبة طويلة شغلها وحده .. ومد حذاءه فى وجه الركاب جميعًا .. وبدأ يهذى بصوت عال .. وبكلمات غير مفهومة .. كان فى أقصى حالات السكر .. ويرتدى بنطلونًا غامقًا وصدارًا من الصوف فى لونه .. وكان فى قامة اليابانيين .. ولكنه ممتلئ الجسم بادى العضلات كأنه صب فى قالب صبًا ، وخرج على هذا الطراز المتماسك .

وظل يهذى والعينان تقدحان بالشرر وفى جلسته وكلامه وقاحة .. وعجبت لمقابلته بالصمت والسكوت من الجالسين حوله .. وليس من طباع اليابانى الجبن ولا الاستكانة .. فهو أشجع خلق اللّه .. ويهزأ بالموت ، والحياة عنده رخيصة ، ويستهين بنفسه فى لحظات كدرت عليه الحياة وضاق بها ..
شاهدت مثل هذه العربة وهذا المخمور فى فيلم أمريكى .. وقابله الجالسون فى العربة الأمريكية بالصمت الأخرس الذى طال .. ودعا إلى الضجر والنفور والتقزز .. ثم تحرك جندى معوق فى العربة وأسكت هذا المخمور إلى الأبد .

فهل يحدث مثل هذا الآن فى العربة اليابانية التى أركبها .. ؟ حدث أن قال المخمور اليابانى كلامًا أضحك فتاة كانت تجلس إلى مقعد بجانب مقعدى.. فلانت ملامحى لضحكتها .. وضحكت مثلها ..

وانتصب المخمور وهو لا يكاد يتماسك واتجه إلينا وفى عينيه يقدح الشرر الضارى ويبرز الجنون الأعمى ..

وقبل أن يصل إلى الفتاة .. أدركته يد قوية من جالس طرحته أرضًا ..

وكان القطار فى هذه اللحظة يهدئ من سرعته وهو داخل المحطة ، وعندما فتح الباب وتوقف القطار طرح اثنان من الركاب بالمخمور وألقياه على الرصيف .

حدث كل هذا فى خطف البرق وسرعة عجيبة حتى إن نصف ركاب العربة لم يشعروا بالذى جرى ..

وتحرك .. وبدت الأنوار القوية تلمع فى الشوارع وفى سقف العربة ، والكل فى سكون .. وخفت من هذا السكون .. وخشيت أن يكون هذا القطار من الطراز الذى يتحرك من غير سائق .. فأنا منذ ركبت لم أر وجه سائق ولا سحنة كمسارى . واستقر رأيى على النزول فى أول محطة يقف فيها القطار ..

ونزلت والليل من حولى كله ضياء ، والجو رائع منعش .. والبالونات تسبح فى السماء من كل الألوان وكل الأحجام ..

ولزمت الرصيف الطويل متجهًا إلى الوجهة التى أتصور فيها الفندق .. وكلما قابلنى عابر سألته عن الفندق ، وجدته بالمصادفة لا يعرف الإنجليزية .. وتكرر ذلك وأنا أسير فى اتجاه واحد ثم أصبحت أدور وألف وحدى .. وأصبحت المفرد تحت البالونات .. فهل خلت المدينة التى يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين من سكانها ومن البوليس .. وهل قادتنى قدماى إلى ضاحية ساكنة جامدة مهجورة من ضواحى طوكيو .. وأنا لا أدرى .. ؟

وشعرت بالخوف يشل حركتى .. وفى مثل خطف البرق لمحت عربة متوسطة من عربات السياحة اليابانية التى يعمل مثلها فى المطار .. فاستوقفتها صارخًا بالإنجليزية .. فوقفت وسألت عن الفندق ..

فقال الراكب الذى بجوار السائق :
ــ انزل واركب المترو .. خمس محطات .. !

وشكرته وأنا شاعر بالغيظ ..

واستأنفت السير وأنا أقول لنفسى ما أشد حماقة الإنسان .. لماذا لا أركب تأكسيًا وأتخلص من هذا الضيق . والمسافة ليست بالبعد الذى أتصوره فالبالونات لا تزال تتموج فوق رأسى والبالونات كلها فى قلب « جنزا » والفندق فى طرف من جنزا .. فلماذا الهلع .. ؟

وتخطيت الشارع وقد عاد إلى قلبى وبصرى الهدى .. لأشير إلى أول تاكسى يمر .. وفيما أنا أهم بذلك لمحت ضوءًا صغيرًا من لافتة تشير إلى «نزل». لافتة بالإنجليزية مضاءة بحروف صغيرة جدًا تتجاوزها العينان فى الليل .. ولكنى قرأتها بقلبى وبصيرتى ..

واتجهت إليها وقلبى يزداد وجيبه لشعور لا أعرف كنهه ..

وطالعنى وأنا أجتاز ممر الحديقة المعشب ، بسكون جامد ، حتى تصورت أن ليس بالنزل أحد .. ووجدت على كرسى بجانب الباب المغلق شيخًا يابانيًا.. أفسح لى الطريق بعد أن قرع جرس الباب ، وأدركت من زيه وعمله أنه خفير النزل ..

وخلعت حذائى ومشيت تحت الأنوار الخافتة على طرقة مفروشة بالحصر المضفر الملون .. إلى حيث توجد فتاة فى لباس الكومينو .. جالسة على حشية مزركشة ، وبجانبها طاولة ورفوف من الخشب .. وحييتها وأنا أقدم لها جواز السفر .. صامتًا .. مستغربًا .. محدقًا فى وجهها ببلاهة .. أخذتنى الرجفة ..

وسمعتها تقول بإنجليزية سليمة :
ــ لا داعى لجواز السفر .. هنا نزل خاص ويكفى أن تدون اسمك وعنوانك فى هذه البطاقة .

ودونت ما طلبته وأنا أحدق فى وجهها وأزداد تحديقًا واستغرابًا .. وسلمتها البطاقة .. فقرأت ما فيها ..

وقالت .. بصوت عال ..
ــ طبيب ..
ــ وكأنها سرت لأنى طبيب .. وأحمل هذه المهنة ..

وقلت :
ــ نعم .. وأنا قادم من مستشفى الدكتور تاشيو .. ورأيت هناك طبيبة تشبهك تمامًا .. شبهًا يدير العقل .. بل أنت فى الواقع .. التى كانت هناك .. وهذا ما جعلنى فى شبه ذهول ..
ــ أنا .. أنا ما برحت هذا المكان .. وعملى فى هذا النزل فقط ..
ــ ألك توأم .. ؟
ــ أبدًا ..

وضحكت من قلب طروب ..
وقلت وأنا أضحك أيضًا ..
ــ إن هذا لعجيب وهذه ليلة العجائب ..
ــ أهذه أول ليلة لك فى طوكيو .. ؟
ــ لا .. نزلت طوكيو منذ عشرة أيام .. وأقيم فى فندق دايتشى .. وحدث أن ضللت الطريق إلى الفندق ، وأنا راجع وحدى من المستشفى .. وهدانى قلبى إلى هذا المكان .. لأقضى فيه ليلة .. بدلاً من الدوران بالتاكسى..
ــ جميل أن تستدل علينا فى الليل دون دليل .. لأن اللافتة الخاصة بالنزل مكتوبة بحروف دقيقة لا تكاد تقرأ .. !
ــ هذا من حسن حظى ..
ــ والآن .. سأريك الغرفة ..

وسارت أمامى فى طرقة مستديرة مزينة بالأصص والورود والزخارف اليابانية .. وعلى الجانبين حجرات منها الصغير والكبير ، تقسم بأبواب خشبية متحركة حسب الرغبة ..

وقالت تشير إلى غرفة وصلنا إلى بابها :
ــ اخترت لك هذه الغرفة ..
وأرتنى غرفة جميلة مفروشة بالحصر والحشيات والمساند .
ــ لا توجد أسرة فى نزلنا وستنام على الحصير !
ــ لقد نمت على الحصير مع جدتى فوق سطح بيتنا .. أعوامًا طويلة .. فهى ليست غريبة على مثلى ..

ونظرت بتأمل ثم قالت :
ــ سأجىء لك بقميص .. فليس معك بيجامة !
ــ شكرًا .. وأستطيع أن أنام بالبنطلون والقميص .

وأزاحت بابًا جانبيًا صغيرًا .. وهى تقول بزهو لأنها تعرف أن ما تقوله يسر كل مسافر ..
ــ والحمام داخل الغرفة ..
ورأيت المناشف والمرايا والنظافة والأناقة ..

وسألتها وأنا أحدق فى البانيو الصغير الحجم .. وهو معد قطعًا للمرأة قبل الرجل ..
ــ سمعت أن المرأة اليابانية تستحم كثيرًا .. فكم مرة فى اليوم ..
ــ ثلاث وأربع مرات .. !
ــ ثلاث وأربع مرات .. وليس عندكن النيل مثلنا .. وإذا وجد النيل فكم مرة .. ؟
ــ ولا مرة .. !!
وضحكنا كثيرًا .. لأن هذا ما يحدث فعلاً ..

وسألت : أتعشيت .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ سنعد لك العشاء ..
ودلتنى على مائدة الطعام ..
ــ أتحب أن تتعشى الآن .. ؟
ــ الأحسن بعد ساعة .. لأنى أكلت فطيرًا مع الشاى فى المستشفى ..
ــ كما تحب ..

وتحركنا فى الطريق إلى الأمام .. لترينى حديقة « النزل » ومرت بنا عاملة وهى تمسح عبراتها .. وسألتها مرافقتى بالإنجليزية :
ــ ما الخبر .. ؟
فردت هذه اليابانية وهى تشهق حابسة عبراتها .. واجتازتنا مسرعة فسألت مرافقتى فى خجل :
ــ ما الذى جرى .. ؟
ــ فتاة من العاملات فى النزل ماتت .. مع أن الطبيب كان عندها منذ ساعة وطمأنها .
ــ ما الذى كانت تشكو منه .. ؟
ــ أشياء كثيرة .. عدة أمراض ..
ــ أمتزوجة .. ؟
ــ أبدًا .
ــ هل أستطيع أن أراها .. ؟
سأقول لماما .. وماما .. صاحبة النزل لأن بابا ميت ..

وجلسنا فى البهو على الحشيات .. وجاءت ماما سريعًا ، تلبس البياض فى بياض .. لأنها بيضاء فى قمة رأسها وما لفته حول عنقها .. وتدثرت به حتى قدميها .. وطالعتنى بوجهها السمين ، وبعينيها الساكنتين .. وكان معها شيخ يابانى جلس صامتًا يحدق فى وجهى .. ولم يقدمه لى أحد .. فأدركت أنه من أقربائهن ..

ولم يطل الصمت .. حدثت الفتاة أمها برغبتى .. وتحركنا جميعًا إلى غرفة الميتة ..

ودخلت وهم حولى وركعت على الأرض بجانب الميتة .. لأنها كانت مطروحة على خشية .. وتبدو صفراء ذابلة كأجمل الورود .

ورفعت رأسى وأشرت إلى النافذة .. وهم يتفرسون باستغراب وفضول .

ونظرت إلى عينى الميتة وحركت الجفن .. ورأيت فى الشعيرات الدقيقة للعين الحياة .. الحياة ..

وقلت لمن حولى بزهو :
ــ إنها لم تمت ..

وخرجت من الجموع الواقفة همهمة عالية ، وصرخة عفوية مكتومة ، مع كل ما هم عليه من تهذيب ورقىّ .

وتحولت سريعًا إلى الفتاة مرافقتى وقلت لها :
ــ استدعى طبيبها أو أى طبيب يابانى حالاً ..
ــ وأنت .. !!
ــ أنا لا أستطيع أن أزاول المهنة هنا .. من غير تصريح ..
ــ أرجوك يا دكتور « حسن » أن تنقذها .. لعنة اللّه على التصريح .. إن حياة هذه المسكينة على يديك ..
ــ سأشترك مع الطبيب اليابانى عندما يجىء .. فلا تراعى ..

وكنت أعرف أن الطبيب فى اليابان يأتى فى زمن يقل عن ثلاث دقائق .. وأقل من هذا الزمن يأتى الإسعاف والبوليس .. ولذلك لم أشعر بالقلق على المريضة ولم يؤنبنى ضميرى .. لأنى تركتها من غير علاج بعد أن عرفت أنها حية ..

وجاء طبيبها وقدمونى له .. وحدثته على عجل .. وأصبحت أنا وهو والسيدة الكبيرة والفتاة مرافقتى داخل الغرفة وخرج الجميع وأغلقنا الباب .

وكشفت الفتاة عن صدر زميلتها .. وشعرت بالخجل وأنا أرى هذا الجمال الأسر .. سبحان من أعطى المرأة اليابانية كل هذه النعومة وهذه الأنوثة وهذه الفتنة وسلبها من الرجل .

وقفت خجلاً مبهورًا والفتاة تكشف فتنة الأنثى فى منبع الأمومة والرضاعة والحنان .

كان الطبيب اليابانى يرغب فى إعطائها حقنة فاعترضت بأدب .. وقلت له :
ــ إنها الآن فى حاجة سريعة إلى تدليك أولاً .. وبعد ذلك تأتى الأدوية والحقن ..
وأخذ الطبيب بوجهة نظرى وانحنى عليها وأخذ يدلك قلبها .. ونظرت المرافقة إلى ناحيتى .. فابتسمت وأدركت غرضها ..

وقلت للطبيب اليابانى بأدب :
ــ هل تسمح لى بمساعدتك يا دكتور .. !
فتنحى جانبًا ..

وركعت بجانب الميتة .. وحدقت فى عينيها .. ووضعت خدى على قلبها .. ولمست يداى صدرها .. وأخذت أدلك فى نعومة ودقة.. ولأول مرة أنسى نفسى وأضع فمى على فمها وأنفخ فيه بحرارة .. وشعرت بشرايين الحياة .
وفتحت المريضة عينيها بثقل .
وفى غمرة الفرح بنجاة الفتاة طوقنى الطبيب اليابانى وكل من كان فى داخل الغرفة .

وقلت للطبيب :
ــ إن هذه الخبرة تعلمتها منكم والدكتور تاشيو هو أستاذى وأنا فخور به كأستاذ .

وأحنى رأسه محييًا .. ورأيت أن يبقى هو بجانب المريضة ، ويعطيها ما يشاء من الأدوية .

وقادتنى المرافقة إلى غرفة الطعام .. وهى تطير من الفرحة ..

وجلست إلى طاولة مستديرة كالطبلية .. وحولى النقوش والزخارف على الجدران .. والتماثيل الخزفية فى الأركان ..
وكان الضوء خافتًا والقناديل تسبح فى زرقة القاعة .. والموسيقى اليابانية الخفيفة تذاع فى نغم رتيب يجلب النعاس .. فأحنيت رأسى وأسبلت عينى ..

وأفقت على رنة صحن وضع أمامى وفيه الفوطة المشبعة بالبخار .. فرفعت رأسى إلى وجه الفتاة التى وضعت الطبق ..

وأحسست برعشة الفجاءة التى تهز كيان الجسم كله فى لحظة أسرع من خطف البرق ، ومن رعشة الجفن ومن سريان التيار الكهربائى .. لحظة مباغتة سمعت لها دقات قلبى وكأنه المطرقة ، فى عنف دقه .. لحظة يذهب لمثلها العقل .. وكانت هى بقدر ما تلاقت أعيننا الأربع ، وحدقت وأتسعت ، وأرتجفت الأجفان بقدر ما غاب إنسان العين بعد ذلك من هول المفاجأة .

وجرت إلى البطاقات التى فى المدخل .. وأخرجت البطاقة الخاصة بالنزيل الجديد الذى وفد الليلة وقرأت الإسم .. وسألت الفتاة الموكلة بالبطاقات عن اسمى وجنسيتى للتأكيد .. فلما عرفت كل هذا وتيقنت منه عادت تحمل أطباق الطعام فى تباطؤ وجمود ، وكأن ما حدث لم يكن قد حدث .

وكنت أمسح بفوطة البخار وجهى وعينى وأشعر بما تفعله هذه الفوطة من راحة للأعصاب .

واشتقت إلى أن أسمع جرس صوتها بعد هذه الغيبة الطويلة .. وهل تغير كما تغير عودها فقد سمنت قليلاً وثقل خطوها .

وسألتها دون أن أرفع وجهى عن الأطباق :
ــ هل جنزا بعيدة عن هنا .. !
ــ بعيدة جدًا .. أربعون دقيقة بالتاكسى ..
ــ وإذا مشيت .. ؟
ــ تصل صباح الأربعاء ..

وكنا فى يوم الاثنين .. فأدركت مداعبتها ..
وسألت بجفاء وهى تحرك أشياء على المائدة :
ــ وما الذى تريده من جنزا فى الساعة التاسعة ليلاً ..
ــ أريد أن أرى السفينة ..
ــ أية سفينة .. ؟
ــ السفينة الراسية على شط جنزا ..
ــ غرقت من سنين وتحطمت قمراتها ..
ــ وركابها .. ؟
ــ غرقوا جميعًا .. ونجا اثنان .. رجل وامرأة .. وقد طوح بهما الزمان .
ــ ولكنهما التقيا ..
ــ أبدًا أخلف الرجل وعده .. كالعادة .. وعاشت المرأة فى محنتها ولوعتها شبه مذهولة .. ثم تمالكت نفسها واستردت أنفاسها وأخذت تعمل فى كل مكان فى المطاعم والمحلات .. وأنساها العمل لوعتها وحبها القديم .. وهكذا تمر الأيام .
ــ قد يكون للرجل عذره .. وتكاليف السفر باهظة ..
ــ أبدًا .. يستطيع أن يعمل حمالاً فى باخرة .. ويأتى كما وعدها ..
ــ اعذريه لفقره .. لقد حاول بكل ما يملك من جهد أن يسافر كطالب إلى بكين أو هونج كونج .. ليكون قريبًا منها ، ولكنه فشل بعد جهود مضنية مرغت نفسه فى التراب .
ــ لا فائدة ترجى من الكلام الآن .. هل تريد شيئًا آخر .. ؟
ــ ستذهبين معى الليلة إلى جنزا ..
ــ أنا .. كيف تطلب من سيدة متزوجة هذا الطلب .. أنا زوجة وأم ..

وابيض وجهى وأطرقت .. زوجة وأم ..
الآن جاء لسع السياط ..

وأطرقت وأخذت استرجع شريط الذكريات ..
منذ سبع سنوات وفى مثل هذا الشهر .. شهر أكتوبر .. وقفت وحدى فى طرف .. جنزا .. بعد أن عبرت الكوبرى الصغير والقناة . واستدرت إلى يسار وكانت الساعة العاشرة ليلاً والجو صحوًا لطيفًا .. لا تؤثر برودته على الواقف فى المكان يتأمل ما حوله حتى إن طالت وقفته .

ولمحت على بعد خطوات منى بناية على شكل سفينة عائمة على الأرض .. وقناديل قمراتها تتوهج بلون فسفورى جذاب .. وساريتها مرفوعة تناطح البالونات المتأرجحة فى الحى كله .

وفى وقفتى ، وأنا منبهر طارح ، وجدت من يسألنى :
ــ أتود أن تشاهد السفينة .. ؟
وأفقت على أنثى رقيقة تجاوزت فى وقفتها كتفى ..

وتأملت عينيها نصف المسبلتين ، وقوامها ولباسها الأوروبى البسيط من قطعتين جونلة وبلوزة .. لم تكن تلبس الكومينو ..
ــ وبكم المشاهدة .. ؟
ــ الساعة بألف ( ين ) .. فى القمرة ..

ولم أعقب .. وظل التفاعل النفسى والجذب والشد .. يعمل .. ويعمل بضراوة .. وسقط شىء علينا من سماء طوكيو أشبه بالبرد أو نتف الثلج .. فضحكنا .. وظلت هى ممسكة بالحبل ..
ــ إذا لم يكن معك هذا المبلغ .. نستطيع أن نتمشى بعض الوقت .. المهم أن نبقى معًا ..
ــ ولماذا أتعبك بالمشى .. سندخل السفينة .

وفى الطابق الثانى احتوتنا قمرة ضيقة أشبه بقمرة البواخر .. وفيها كل أثاثها ومعداتها .. وشربنا النبيذ والساكى .. وتحدثنا عن القاهرة وطوكيو .. بحب وحماسة ..

وسألتنى :
ــ أين تقيم .. ؟
ــ فى دايتشى ..
ــ إنها على بعد خطوات من هنا .. سأكتفى بعملى الليلة فى السفينة وأخرج معك .. لنتجول فى جنزا ..

وشعرت بالسعادة تغمر قلبى .. وسرنا فى الليل الحالم فى حى الألف ملهى وألف حى كأنما رسمه ووضع له الخطوط فنان لا يجارى فى عبقريته ونبوغه .. ملاه زاهية بألوانها وقناديلها ورسومها .. فى صفوف تدور وتطول .. وكلما دارت تألقت إلى لون آخر .. أكثر جمالاً وأشد فتنة .. وعلى كل باب تقف فتاة فى حفل من الزينة والعطر .. والكومينو ينسحب إلى الأرض ..

وفى الداخل ترى صفًا من الفتيات اللابسات الأقنعة .. جالسات فى صمت أخرس تحت الضوء الشاحب .. يتفرسن فى كل داخل .. ومنهن مع كل ما فيها من رقة وعذرية وجمال .. من تقع فريسة سكير فظ يذيقها كل أنواع العذاب .. وتتحمله بصبر عجيب .. وتظل تعمل فى المكان .. والسكير المتشرد يتردد ويختار .. عجبًا للدنيا بتصاريفها .. فلا يقع مثل هذا فى جنزا وحدها ولا فى طوكيو وحدها .. وإنما فى كل مدينة يقع فيها ليل وملهى ..

بعد أن تجولنا أنا وفتاة السفينة فى طرقات الملاهى وشبعنا من النظر .. اخترنا ملهى من طابقين لنأكل ونسمع فى هدوء الموسيقى الخفيفة .

وجلسنا متجاورين إلى مائدة مستطيلة فى نصفها زهرية .. وجاءت العاملة بالفوطتين المشبعتين بالبخار .. كل واحدة فى طبق .. كأول ما يقدم للزبائن..

وتناولت فوطتى .. وأخذت أمسح وجهها وأضغط على خديها وأنفها وهى تضحك مسبلة عينيها .. وساعدنى على الاسترسال فى العملية خلو المكان .. وفعلت هى بفوطتها فى وجهى مثل ما فعلت ..

وخرجنا كأننا نسبح فى الجو ..
وقلت لها :
ــ أين تقيمين .. سأوصلك إلى منزلك .. ؟
ــ سأذهب معك ..

وحاولت أن أقول شيئًا ..
ــ لا تفتح فمك ..

وانقطعت أسبوعًا كاملاً عن عملها فى السفينة لتبقى معى . وتصاحبنى فى كل جولة ..
وفى يوم سفرى كان قلبى يتمزق وروحى ضاعت ..

وسافرت لأعود بعد شهور قليلة .. ولكنى عدت بعد سبع سنوات كاملة.. ويجمعنى القدر بها فى هذا النزل .. فى ليلة عجيبة بكل تصاريفها .. يجمعنا بعد أن طوح بنا الزمن ، وتصورنا أن الموت فرق بيننا .. وخيم اليأس الذى لا رجاء بعده ..

ولكن ها هى الآن واقفة أمامى بلحمها ودمها وكل ما فيها من جمال ورقة.. واقفة فى هذا النزل وكأنه لم يحدث بيننا فراق ولا غيبة طويلة .. واقفة بكل أنوثتها .. ولكنها جامدة .

وذلك لأن العواطف المتأججة الصارخة أخرسها اليأس والزمن الطويل .. وكان اللقاء المفاجئ كأنه يمسح على جسد مريض طال مرضه وطالت بلواه.. بغير أمل فى الشفاء .

قالت بظل ابتسامة :
ــ تحدثت مع المدام وستذهب معك مس « أكى » إلى جنزا ..
ــ أريدك أنت وإلا فلا داعى لهذه الجولة .
ــ سأجعل المدام تتصل بزوجى وتستأذنه ..
ــ ما عمله .. ؟
ــ إنه موسيقى يعمل فى مسرح ميكامو .

لابد أن يكون زوجها عازفًا فنانًا شاعرى الطباع .. فمن كان فى مثل رقتها وطباعها لا يتحمل خشونة رجل آخر ..
ــ وابنك .. كبير .. ؟
ــ عمره ست سنوات

وأحسست بالأرض تدور
ــ أحب أن أراه .

فى الصباح ستراه .. وهو يوزع جريدة أساهى قبل أن يذهب إلى المدرسة.
ــ أمعك صورة له ..!
ــ معى ..
ــ أرينيها .. أرجوك ..
ــ أخاف أن يغمى عليك .. وأنت طبيب ..

وشعرت بالدنيا تدور فعلا قبل أن أرى الصورة ..
===============================
نشرت القصة بصحيفة أخبار اليوم 30/6/1984 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص من اليابان 2001 من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================