الثلاثاء، ١٨ سبتمبر ٢٠٠٧

قصة اللؤلؤة





اللؤلؤة
قصة محمود البدوى

كان ذلك منذ خمسة أعوام .. وكنت قد دعيت إلى حفلة شاى خاصة فى نادى الكتاب بمدينة طوكيو فى اليوم الرابع من ديسمبر .. وكانت الحفلة شائقة حقا وممتعة للغاية كثر فيها الحديث عن السلام والحضارة وعن مستقبل الإنسانية .. وعن الأدب .. والفنون فى آسيا وأفريقيا وفى العالم أجمع ..

ولما جاء ذكر كتاب القصة تحدثنا عن تشيكوف .. وقلت للرفقاء حول المائدة .. إن العلوم الطبية كما يقول تشيكوف عن نفسه قد أثرت تأثيرا عظيما فى حياته الأدبية ووسعت ميدان ملاحظاته .. وإنه من دواعى سرورى وفخرى أننى بدأت أترجم لهذا الكاتب العظيم وأنا طالب صغير فى الجامعة ..

وإنه لفلتة من فلتات الدهر .. وفنان أصيل لا يشق له غبار .. ولا يمكن أن يقارن بغيره من كتاب القصة القصيرة كموباسان أو موم .. أو كوبرين .. أو اندريت .. إنه نسيج وحده ولقد عرف كيف ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية ..

وروحه العذبة قد جعلت منه أعظم كاتب على الإطلاق ..

وانحنى فى تلك اللحظة فنان يابانى يقرب من الخمسين من عمره ..
وقال فى تواضع ظاهر .. وأدب جم ..
ــ لقد ترجمت لتشيكوف مثلك أيها السيد .. وأنا صغير .. ومازلت أترجم ..
ــ ما أعظم سرورى .. !

ولما انتهينا من الشاى وقف معى ذلك الفنان فى زاوية من القاعة وخضنا فى مختلف الأحاديث عن الفن والحياة ..

وكان الرجل غزير المادة حقا يحيط بكل شئ علما ويعرف الكثير عن الشرق العربى وأدركت أنه فنان أصيل ولكننى قرأت على وجهه القلق والعذاب ..

وقلت لنفسى إنه أكثر عذابا من تشيكوف نفسه ..

وقال لى إنه يصدر مجلة الآداب والفنون .. وقدم لى نسخة منها .. فقلبت فيها وسألته ..
ــ وكم تطبع .. ؟
ــ ثلاثة آلاف ..
ــ فقط ..
ــ لابد أنك تخسر ..؟
ــ دائما .. خسارة مستمرة ..
ــ هل الأدب فى محنة .. وضائع فى هذه المدينة الكبيرة ..؟
ــ لا .. وإنما تعوزنى وسائل كثيرة لعرضها على القراء ..

وشعرت بالأسى للرجل المسكين الذى يضحى ويشغل نفسه بالأدب ويعيش فى فقر مر .. وأدركت قطعا أن شيئا ينقصه .. شيئا حيويا وهاما .. ففى طوكيو تطبع جريدة اساهى سبعة ملايين نسخة فى اليوم وجريدة يوميورى أربعة ملايين وهو شئ لا يحدث مثله فى أية مدينة فى العالم ..

وقلت للرجل إنه من السهل جدا .. أن نجد ثلاثين ألف قارئ فى مدينة كهذه .. وقال لى إنه سيجدد فيها ابتداء من العام الجديد ويخرجها بشكل آخر .. أكثر أناقة .. فهو يشعر بأنها جافة وينقصها شئ ..

وفى أثناء انشغالى بالحديث معه تقدمت لى سيدة شابة ممسكة بآلة تصوير صغيرة وقالت برقة ..
ــ أتسمح بأن آخذ لك صورة ..؟
ــ تفضلى ..
ــ وصورة أخرى مع زوجى ..
ــ تفضلى ..

ووقف الرجل بجانبى والتقطت لنا أكثر من صورة .. ونحن وقوف .. وجالسين ومطلين من الشرفة الواسعة على الشارع المتألق بالأنوار ..

وكانت السيدة سوجا ترتدى جاكتة واسعة الأكمام .. فى زى يابانى خالص .. وكانت رقيقة القد متألقة الوجه فائقة الجمال ويتوج رأسها باقة من الشعر الأسود المتموج الشديد اللمعان .. وكان فمها صغيرا .. وأسنانها صغيرة وفى صفاء اللؤلؤ .. وفى عينيها البراقة تلك الضمة الصغيرة التى تتميز بها اليابانيات على سائر البشر ..

وراحت وجاءت فى القاعة الصغيرة كالطاووس الجميل وهى تمسك بآلة التصوير فى يدها ..

ثم وقفت أخيرا بجانبنا .. وجذب انتباهى إليها .. صفاء عينيها ووجه لم أر له شبيها فى مدينة طوكيو كلها ..

وانطلقت أتحدث معها ووجدتها تجيد الإنجليزية إجادة تامة بغير اللكنة التى سمعتها من غيرها من اليابانيات ..

وكانت السيدة سوجا مسرورة فى الواقع لكونى أديبا مثل زوجها أداشى وكانت تخص هذا بكل مشاعرها فى كل لحظة .. محياها المتألق وعنقها الرقيق .. ويداها الناحلتان .. ودماثتها وحنانها .. كل هذه الأشياء تتجه إلى زوجها وأدركت أنها تعبده وتنظر إليه كعبقرى عديم النظير ..

وبقيت أصغى إليها طوال ساعة كاملة وهى تحدثنى عن الأدب وعن زوجها وكنت أكره الاجتماعات العامة والخاصة ولكننى استغرقت فى هذه الجلسة .. وخرجت منها بأن المستر اداشى إنسان يصرخ بالعذاب فى مدينة ضخمة تعصر روحه وتقف بجانبه زوجة جميلة تناصره بحنانها وتساعده على المضى فى طريقه برغم الفقر وانقطاع السبل ..

وقلت لها .. ونحن نتجه إلى الباب الخارجى .. وكانت قد طوت آلة التصوير ..
ــ إننى أريد صورة واحدة من هذه الصور على الأقل ..
ــ سنحمل لك المجموعة كلها .. أين تقيم ..؟
ــ فى فندق دايتشى ..

وأخرجت دفترا صغيرا .. وكتبت اسم الفندق ورقم الغرفة ..

وقال لى المستر اداشى إن زوجته مغرمة بالتصوير .. وبارعة فيه .. وإنه نشر لها عدة صور فى المجلة وإنه ينتقى بعض الصور لنا لينشرها فى العدد الذى يصدر فى أول يناير وكانت المجلة تصدر أربع مرات فى السنة ..

وشكرت المستر اداشى ودعوته وزوجته لتناول الشاى فى الفندق .. فى عصر الغد فقبلا الدعوة بسرور ..

وقدما فى الميعاد .. وكان هو يرتدى حلته الرمادية نفسها .. ويبدو بعينيه الشهلاوين أكثر تعبا مما رأيته بالأمس ..

وكانت هى ترتدى رداء أوربيا فى هذه المرة .. من بلوزة وجونلة من لون واحد ..

واقتعدنا مكانا فى قاعة الشاى وكنا قريبين من الباب الدوار .. واليوم يوم السبت والباب يقذف فى كل لحظة فوجا جديدا من الزوار ..

وفتاة على الميكرفون يجلجل صوتها فى القاعة تطلب بعض النزلاء إلى التليفون ..

وأخذ الرجل الفنان يحدثنى وسط هذا الضجيج عن رسالة الفكر فى الحياة .. وكانت زوجته تصغى إليه باهتمام زائد وهو يتحدث عن تحرير الإنسان من شبح الحرب .. ومن الخوف .. ومن الموت جوعا .. كما تحدث عن خلاص البشر من العمل الآلى وسألته وأنا أبتسم ..
ــ هل أنت من أنصار الطبيعة مثل روسو ..؟
ــ لا أقصد هذا وإنما يجب أن نحرر الإنسان من العمل المضنى ونعطيه فرصة للراحة ليفكر فى نفسه كإنسان .. وما قيمة الكهرباء إذا كان هو نفسه يعيش حياة كئيبة قاتمة ..
يجب أن يشعر الإنسان بسموه على الآلة وعلى أضرابها .. وعلى الذرة نفسها .. وأن يسخرها لمصلحته ..

وكانت سوجا تسمع وتؤمّن على كلامه .. وكانت تتصور أننا باعتبارنا أدباء .. نعرف أشياء لا حد لها .. عن العلم والذرة ومعجزات الإنسان ..

وكانت وجنتاها تتضرجان قليلا عندما ترانى أحد إليها النظر وأثنى على لهجتها السليمة فى الحديث ..

وكانت تسمع بشغف كل ما أتحدث به عن وطنى العربى ..

ولما قلت لهما ..
ــ إنى أتمنى أن أرى القاهرة يوما ما فى جمال طوكيو ..
ــ إن القاهرة جميلة .. كما نسمع ..
ــ ولكن لا توجد مدينة فى العالم مثل طوكيو .. لقد وضعتم كل ما عندكم من جمال وفن فى العاصمة ..

وبرقت عيناها وقالت ..
ــ قد يكون هذا صحيحا ..

وقدم لى المستر اداشى أعدادا من مجلته .. وكان يفتش بعينيه فى لهفة عظيمة عن رأيى ..
وزوجته تنصت إلى كل كلمة أقولها ..

ولم أكن أعرف اليابانية ولا كلمة واحدة منها .. ولكنها أخذت تترجم لى العناوين وتشرح لى ما فى داخل الصفحات ..

ووجدت فنا خالصا وعملا أدبيا بحتا .. وهنأت الرجل وشكرته .. وشكرت سوجا على ترجمتها وهى تنظر إلى بثبات ورقة ..

واستأذنا فى الانصراف بعد الغروب وهما يعدانى بإرسال الصور لى فى الغد .. أو بعد غد وسيتركانها لى إن لم يجدانى فى مكتب الاستقبال ..

وكانت لى رغبة عاتية فى الجولان فى المدينة فى تلك الساعة من الليل .. فرافقتهما إلى محطة شمباسى .. وكانت سوجا فى مشيتها وأناقتها وتسريحة شعرها تدل على أنها تنتسب إلى وسط رفيع وأنها حقا زوجة فنان ..

وكانت حيوية الناس ونظافة ثيابهم وحركتهم السريعة .. تثير إعجابى وتلهب حواسى ..

وهبطنا درجات المترو .. وهناك على الرصيف ودعتهما وأنا أشعر بأنى وجدت صديقين فى هذه المدينة الكبيرة .. وكنت فيها من قبل كسمكة تسبح فى محيط ..

***

وابتعد المترو سريعا واختفت أنواره فى لحظة وجيزة وتلاشت الضوضاء من حولى .. وقد بقيت وحيدا على الرصيف أحد النظر فيما حولى من أنوار براقة تخطف البصر .. وفى الآلات الأوتوماتيكية التى يسقط الجمهور فيها قطع « الينات » .. فتخرج التذاكر .. وفى القطارات الزرقاء .. المغطاة كراسيها بالقطيفة .. وفى كل ما حولى من جمال ..

وكانت رائحة الشتاء تغمر المحطة والأمسية باردة .. ولم أكن أرتدى معطفا فضممت سترتى وأنا أصعد سلالم النفق إلى أعلى .. وأستقبل الهواء البارد فى شارع جنزا ..

كانت الأنوار تسطع والبالونات الحمراء .. والزرقاء والبنفسجية .. تسبح على رءوس العمارات الشاهقة .. وأنوار النيون تغمر واجهة الحوانيت ..

والناس يسرعون رائحين غادين على الرصيف والنساء فى الكومينو وفى الزى الأوربى والرجال قصار ولكنهم مصبوبون صبا فى قوالب واحدة .. ويسرعون فى نشاط عجيب إلى بيوتهم .. كانوا خارجين من البنوك والشركات والبيوتات المالية الكبيرة .. ويتجهون إلى مساكنهم .. فى الضواحى وأطراف المدينة ..

وكانت صورة اداشى بذقنه الصغيرة المدببة وعينيه الشهلاوين لا تبرح ذهنى ..

وعندما أمسيت فى غرفتى فى الفندق اتجهت أفكارى إليه فأخرجت مجلته وأخذت استعرض ما فيها وأدخن .. وأفكر فى سلسلة الروابط .. التى تربط الفنان فى العالم بأخيه ..

***

وفى الصباح المبكر من اليوم التالى دق جرس التليفون فى غرفتى .. ولما رفعت السماعة وجدت .. سوجا على الخط وقالت لى إنها تتحدث من بهو الفندق وأنها جاءت إلى بالصور .. وكانت قاعة الشاى بالفندق لا تفتح قبل التاسعة صباحا .. واستحيت أن أطلب منها أن تصعد إلى غرفتى .. فقلت لها بأنى سأوافيها .. فى البهو الداخلى الصغير الذى بجوار المصاعد فى الحال ..

ونزلت مسرعا فوجدتها ترتدى الرداء اليابانى الواسع الأكمام .. وكنت أرى ذراعيها الرقيقتين الناحلتين فى كميها العريضتين ..

وجلسنا فى ركن من القاعة وأرتنى الصور .. وسررت بها جدا فقد كانت لقطتها رائعة .. وقرأت على وجه زوجها فى الصورة الأسى الذى رأيته عليه فى الحياة .. وسألتها عنه ..

فقالت لى إنه مشغول .. بإخراج المجلة .. لأنها ستصدر فى أول العام الجديد .. وقالت لى إنه يقاسى ويعانى كثيرا .. ولا يحس به إنسان ولا يجد صدى فى الحياة وإنه سر جدا عندما رآنى .. والحديث عن مجلته فى أية مجلة عربية سيسعده ..

وأضافت برقة ..
ــ حبذا .. لو ترجمت من أعماله شيئا وأرسلته له ..
ووعدتها بذلك وسرت كثيرا ..

وقلت لها إن أقسى شئ على الفنان أن لا يجد الصدى .. ولا الرنين لأعماله الكبيرة ..
وتشيكوف يقول على لسان أحد أبطاله :
« إن أقسى الأمور على المرء هو أن يعمل دون أن يلقى الود والعطف من أى إنسان .. »
ولعل زوجك ترجم هذا فيما ترجم لتشيكوف .. وأحس بالمرارة نفسها ..

وقالت برقة :
ــ لابد أن يكون قد ترجم هذا .. وأحس به فعلا .. كما تقول .. إلى أين ستذهب فى هذا الصباح ..؟
ــ سأجول فى المدينة .. أسير كيفا اتفق ..
ــ هل رأيت قصر الإمبراطور .. والتليفزيون والمحطة وجامعة طوكيو ..
ــ كل هذا رأيته .. وحتى كلية البنات ..

وضحكت .. وسألتنى باستغراب ..
ــ ولماذا ذهبت إلى هناك ..؟
ــ لأرى الفتاة اليابانية الصغيرة .. فى المدرسة .. وأعرف ما تتعلمه هناك .. لتواجه به الحياة ..
ــ وهل أعجبتك ..؟
ــ جدا .. إنها مثال الفتاة المهذبة النقية .. التى تسعد زوجها حقا ..
وكانت تبتسم ..

وظللنا نتحدث .. وكانت الساعة قد جاوزت التاسعة وافتتحت قاعة الشاى .. فعرضت عليها أن نجلس قليلا فى القاعة ..

فقالت برقة :
ــ أنا لا أود أن أحرمك من التمتع بمنظر المدينة فى الصباح .. وأحبسك بين هذه الجدران .. الأحسن أن نخرج ..

ونهضنا .. ونفذنا من الباب الدوار معا إلى الطريق .. واستقبلنا الصباح المشرق ببشاشته ..

وسرنا متمهلين تحت الكوبرى الذى يعبر فوقه المترو .. وكنا نسمع هزاته السريعة فوقنا ..

وكانت هذه أول مرة أخرج فيها بصحبة امرأة فى هذه المدينة الكبيرة .. كانت رقيقة وادعة وابتسامتها المؤثرة .. تمسح لواعج صدرى .. وكنت خائفا ومقرورا حتى فى الصباح الدافئ ..

وكانت الشمس تفضض الأرض وتذيب ندى الفجر .. وتطارد الضباب ..

واجتذبتنى المطاعم الصغيرة .. والحوانيت .. ودكاكين الشوكولاتة والسجائر .. والفاكهة .. التى على الجانبين .. بنظافتها والنساء الجالسات فى صف طويل يمسحن أحذية المارة .. فى براعة وأناقة ..

وقلت لسوجا :
ــ إن منظرهن ممتع ..
ــ ولكنى أشفق على الصبايا منهن من هذا العمل ...

وتنضر وجهها .. ونحن نقترب من حى جنزا .. وقد أغلقت أبواب ملاهيه.. الحى الذى ليس له ضريب فى العالم .. والذى يتألق فى الليل .. كالماس على صدر أجمل حسناء يلفظ الآن أنفاسه .. ولن تفتح أبوابه .. إلا بعد الخامسة مساء ..

إن الجمال الممتع فى الليل يتحول فى النهار إلى كآبة موحشة ..
وخرجنا من الحى ..

ودخلنا مكتبة على الطريق .. ومتجرا كبيرا من سبعة طوابق .. وركبنا السلم الكهربى كطفلين صغيرين ..

وكانت جذلانة وكنت أشد منها سرورا .. وعلى سطح المتجر جلسنا نشرب الشاى ..

وانتقت لى بعض القمصان الجاهزة والكرافتات .. وآلة حلاقة كهربية .. وكنت أود أن أشترى لها أى شئ بسيط .. ولكن رفضت بإلحاح أذهلنى ..

وسألتنى إن كنت قد رأيت .. مسرح كابوكى .. والسيزاما .. وذهبت إلى فوجى .. وهاكونو فلما قلت لها بأنى شاهدت كل هذه الأشياء ..

قالت ضاحكة ..
ــ أنت الآن تصلح لأن تكون دليلى ..

وكنت أشخص إلى الفنجان الذى تمسكه بيدها البضة .. وأبقى سادرا مشدوها وكانت خصل من شعرها الأسود تبدو من تحت وشاحها الحريرى وتلتصق بصدغيها ورائحة عبقة تمتزج مع أنفاسها رائحة البنفسج الممزوج بالمسك ..

وسألتنى :
ــ ما بالك صامتا ..؟
فقلت هامسا :
ــ كنت أفكر .. لماذا التقيت بك ..؟

وسألتنى وهى تقترب بوجهها منى :
ــ ماذا تقول ..؟
وكانت لم تسمع قولى .. وحمدت اللّه على ذلك وقلت ..
ــ إنى أفكر فى زيارة جريدة اساهى .. إن رقم توزيعها يذهلنى ..
ــ سيذهب معك زوجى .. وسأجعله يرتب الأمر مع الجريدة ..

ونظرت فى ساعتها .. وكانت الساعة تقترب من الحادية عشرة .. فاستأذنت وودعتها على محطة الأوتوبيس ..

***

وأخذت استقبل من طريقى ما استدبر .. كنت أسير فى الطريق الذى اجتزناه منذ لحظات .. وكان شعور شديد من الكآبة .. الممزوج بالفرح .. يجتاحنى ..

وعلى حاجز الكوبرى الصغير .. الذى تجرى تحته الترعة التى تشق المدينة وبجوار ملهى السفينة .. وقفت أرقب المياه الساكنة تحتى وأنا أحس بأنها تتحرك وتتحرك عن مثل الدوامة ..

ولما مر القطار .. فكرت أن أركبه لمدة ساعة وأرى ضواحى المدينة ثم وجدت نفسى أقتعد حجرا فى مقهى صغير على حافة الترعة وكانت على بعد نصف فرسخ من المحطة ..

وكانت فتاة المقهى لا تعرف الإنجليزية .. ولا الفرنسية .. فجذبتنى من كمى إلى الداخل لأختار ما أريده من الطعام والشراب .. وبعد قليل انزاحت عنى الكآبة وشعرت بأن ضحكتها الفضية ترقص قلبى ..

***

وزرت مع مستر أداشى جريدة أساهى .. والجامعة الأهلية .. وكل المكتبات الكبيرة فى المدينة .. وشكرت الرجل الفنان لأنه خصص لى كل هذا الوقت وتركنى وهو يحدثنى بأنه لا يزال يبحث عن العدد الأول من مجلته .. ليضمه الى المجموعة التى أهداها لى ..

واسترحت قليلا فى الفندق ..

***

وفى الليل خرجت إلى المدينة الرهيبة وحدى وكنت أسير كالضال فى الليل الحالم .. وجذبتنى ملاهى جنزا .. بأنوارها والستائر على الأبواب الزجاجية الصغيرة .. ودفعت بابا صغيرا فيها .. ودخلت فوجدت صبية على الباب تقول بلهجة مهذبة وهى تنحنى .. وتفتح لى الباب ..
ــ تفضل يا سيد ..

ووقفت على الباب لحظات من الخارج .. أنظر إلى الداخل .. وكان المكان صغيرا .. وبه حوالى عشر فتيات .. يرتدين زى الكومينو .. وبعضهن بالزى الأوربى وكن جالسات وواقفات خلف الطاولة المستديرة .. وعيونهن ترقب كل داخل .. ولم يكن بالمكان أحد .. فهممت أن أدخل ثم استحييت أن ينفردن بى ويتجمعن حولى وليست لى رغبة فى الشراب .. فرجعت عن الباب .. وفى تلك اللحظة لمحت سيدة تعبر الطريق .. ولما دققت النظر فيها عرفت أنها « سوجا » ..
ووقفت لما رأتنى كأنها تنتظرنى .. فأسرعت إليها ..

وسألتنى :
ــ هل كنت بالداخل ؟
ــ إننى لم أدخل بعد .. كنت أنظر من خلال الباب ..
ــ وأعجبك المنظر .. ؟
ــ جدا ..
وضحكت أنا .. واكتفت هى بالابتسام .. لكننى أحسست بعد بضع خطوات أنها تشعر بالزهو .. لأنها أبعدتنى عن هذا المكان ..

وكنت أعرف .. مشربا هادئا من مشارب الشاى .. قريبا من حى شمباسى .. فمشينا إليه .. ومشت بجوارى صامتة .. وأنا أحس بوقع خطواتها على الأرض الحجرية ..

وسألتها عن زوجها .. فقالت لى إنها تركته منذ نصف ساعة فى عمله .. وإنها فى طريقها إلى البيت ..

وجلسنا ساعة فى المشرب ثم خرجنا وقلت لها إننى أود أن أريها مجموعات من الصور .. اشتريتها من هونج كونج .. ومانيللا .. وبانكوك .. وشانغهاى .. ودلهى الجديدة .. وبومباى .. مادامت مغرمة بالتصوير .. فوافقت ..

ولما اقتربنا من باب الفندق .. دخلت معى .. وتناولت المفتاح واتجهنا توا.. إلى باب المصعد وهى بجوارى صامتة .. وصعدنا .. إلى الدور السابع .. ودخلنا غرفتى .. وكانت صغيرة وأنيقة .. فسرت منها وجلسنا قليلا نتحدث.. ثم أخرجت لها مجموعة الصور وتركتها تقلب فيها واتجهت إلى الحمام .. وكان من داخل الغرفة وقبل أن أدخله ملت إلى باب الغرفة الخارجى وأغلقته بالمفتاح من الداخل بحركة خفيفة حتى لا تحس بى ..

وشعرت وأنا أدير صنبور المياه الساخن الذى فى الحمام لأغسل وجهى أنها وضعت سماعة التليفون الذى فى الغرفة ..
فلما أسرعت وعدت إليها وجدتها منهمكة فى الصور .. وراقتها جدا .. صور شنغهاى .. بومباى ..

وجلست بجوارها .. أقلب معها فى الألبوم وأريها الصور الباقية ثم وجدت نفسى دون إدراك .. أضمها ألى صدرى وأقبل عنقها .. ووجهها ..

وأخذت تدفعنى بلطف وأنا أقترب ولما رأتنى لا أتراجع ازدادت مقاومتها وازداد تطويقى لها وأخذت أقبلها فى جنون .

واستفقت على قرع الباب الخارجى .. فنظرت إلى عينيها قليلا .. واتجهت إلى الباب .. فوجدت الخادمة تحمل صينية الشاى ..

ولم أكن قد طلبت شيئا .. وأدركت أنها هى التى طلبته بالتليفون وأنا فى الحمام وانها شعرت بى وأنا أغلق الباب من الداخل فتعمدت أن تأتى الخادمة وتقطع علينا هذه الخلوة لتمنعنى من حماقة ..

وشعرت بالخجل .. لما ذهبت الخادمة وظلت سوجا بجانبى وكنت أشعر بالقلق ..

وقلت لها :
ــ آسف لما حدث ..
ــ أنا أعرف أنك متعب الأعصاب يا سيد إبراهيم .. وما حدث كان نزوة أعصاب مرهقة ..
ــ شكرا .. ولكنك جعلتينى أعتقد خلاف ذلك ..
ــ ماذا ..؟
ــ اّننى أصبحت غير مرغوب فى من النساء ..
ــ لا تفكر فى هذا .. إن الخطيئة تحطمنى تماما ..
ــ لم يحدث شئ .. ولقد نسيت بحماقتى أنك تحبين زوجك .
ــ إننى الشئ الباقى له .. فى الحياة ..

وما زلت أحادثها حتى هدأت واطمأنت تماما .. إلى أن ما حدث كان عارضا وقتيا .. لا يتكرر ثانية ..
ثم رافقتها إلى الخارج ..

***

وبعد يومين زارنى المستر اداشى فى الفندق وهو يحمل لى العدد الأول من مجلته .. وكان الرجل منكسر النفس .. ورقيقا للغاية حتى جعلنى أشعر بالخجل .. وكان يزهو وهو يقدم لى هذا العدد بالذات كأنه يحمل كنزا ..

ولما قلت له .. إنى أود أن أشترى عقدا من اللؤلؤ لزوجتى من المدينة ولا أستطيع أن أميز بين اللؤلؤ الحقيقى واللؤلؤ الصناعى ..

قال لى بلطف :
ــ سترافقك سوجا فى الوقت الذى تختاره .. إنها خبيرة ..

***

ولما دخلت المتجر أنا وهى وعرضت علىّ البائعة الآلئ من كل الأحجام والألوان وانحنت سوجا على الطاولة لتفحصها كنت أعرف أنها هى اللؤلؤة الحقيقية .. النادرة الوجود .. وما عداها زائف ..

================================
نشرت القصة فى صحيفة المساء 8/4/1960 وأعيد نشرها فى مجموعة " حارس البستان " وبمجموعة "
قصص من اليابان " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===============================

ليست هناك تعليقات: