الثلاثاء، ١٨ سبتمبر ٢٠٠٧

قصة الجرس






نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان



الجــرس



قصة محمود البدوى


شعرت وأنا فى طوكيو بألم حاد فى ضرسى لم أعرف سببه .. ولما كنت لا أستطيع أن أتحرك خطوة .. فى هذه المدينة الحالمة وأنا أحمل هذا الصاروخ بين فكى .. فقد أسرعت فى الحال إلى أول طبيب أسنان عرفته من الدليل ..

وفحصنى الطبيب الشاب من رأسى إلى قدمى .. كأننى سأشتغل طيارا ..

ثم قال فى هدوء :
ــ إن الضرس سليم ..

فسألته فى استغراب :
ــ وما الذى يوجعنى أذن ؟..
ــ أعصاب اللثة .. إنها التى تصرخ ..

وأطرق برهة ثم سألنى كأنه يرتب أمرا ..
ــ كم يوما ستبقى فى طوكيو ..؟
ــ ربما شهر وأكثر ..
ــ حسن جدا .. يكفى أسبوع واحد للعلاج ..

وتحدث توا مع مساعدته الحسناء باليابانية .. فأخذتنى إلى غرفة مجاورة .. حيث غسلت فمى بكل أنواع المطهرات .. ثم غرست فى لحمى إبرة .. وانصرفت على أن أعود فى اليوم التالى .. لأواصل العلاج ...

والواقع أننى كنت أستطيع أن أنقطع عن التردد على العيادة بعد هذه الحقنة فقد زال الألم تماما .. ولكن الحى كله جذبنى بجماله الباهر .. وجعلنى أحس بحنين بالغ إلى زيارته مرة أخرى ..

وكان فى البناية الملاصقة لعيادة الطبيب منزل قديم من طابقين وكان متجرا لبيع التحف الثمينة والتماثيل ..

ولاحظت على بابه الزجاجى جرسا صغيرا .. يتحرك .. كلما تحرك الباب كأنه ينبه من فى الداخل لكل من يتخطى العتبة .. وكان هذا الشئ العتيق غريبا فى اليابان الحديثة التى يتحرك فيها كل شئ أتوماتيكيا .

وكان الأغرب من هذا مارد ضخم جثم فى مدخل الباب .. ولم يكن فيه شئ من ملامح الرجل اليابانى أو قامته .. وكان يرتدى سترة وسروالا أسمرين ويلبس حذاء طويل العنق .. وكان رأسه أصلع يلمع وشاربه كثا طويلا يتدلى على جانبى فمه ..

وكان يذرع طوار المحل فى حركة رتيبة بطيئة وهو يدخن .. كأنه الأسد فى عرينه ثم يعود إلى الكرسى فيجلس عليه متحفزا للقيام فى كل لحظة ..

ولم أكن أدرى علاقته بالمتجر على وجه التحديد .. ولكن طول قامته .. والجرس الذى يرن فوق رأسه .. استرعيا نظرى ..

وفى عصر يوم ولجت باب المحل .. وحيانى الرجل العملاق وأنا داخل ... فأحنى رأسه مرتين على عادة اليابانيين وفتح لى بيده الباب .. وسمعت رنين الجرس .. واستمر الرنين عدة ثوان حتى بعد أن جاوزت المدخل ..

ورأيت فى المتجر .. كل أنواع التحف الغريبة .. أوانى المائدة التى تعزف الألحان الموسيقية .. وعلب السجائر التى تعزف نشيد شهرزاد .. والأكواب التى تنشد الأغانى اليابانية .. وتماثيل بوذا من الذهب الخالص ..

وكان فى المحل أكثر من عشرين فتاة من العاملات فى سن واحدة وعلى مستوى واحد من الجمال الفتان ..

وكان منظرهن ببشرتهن الناصعة البياض فى المرايل الزرقاء والشعر الأسود المعقوص على الطريقة اليابانية .. يأخذ بلب السائح أكثر من النفائس التى فى المتجر ..

ووقفت أمام صف التماثيل .. فأعجبنى تمثال صغير لبوذا من الخزف دقيق الصنع .. ولكننى خشيت أن يتحطم من سفرى الطويل .. وحدثت الفتاة العاملة بمخاوفى فقالت لى أن فى الدور الأرضى تماثيل معدنية من النحاس والذهب والفضة الخالصة تصل سليمة إلى أى مكان .. دون أن يصيبها أقل خدش .. مهما كان السفر ...

واتخذت طريقى إلى السلم الهابط .. ولكن قبل أن أضع قدمى على أول درجة .. سمعت من يقول بصوت ناعم بالإنجليزية ..
ــ سأريك الطريق ...

فتلفت ورائى .. فوجدت سيدة أنيقة كنت قد رأيتها واقفة فى البهو وانا داخل وعرفت أنها زوجة صاحب المتجر ..

وقادتنى وهى تنساب أمامى فى رشاقة إلى العاملة التى سترينى التماثيل .. فهبطت هذه فى قبو .. معتم .. خفت أن أمضى فيه وحدى مع الفتاة .. لولا أن المدام شجعتنى بنظراتها .. ثم رأت أخيرا أن تنضم إلينا وأصبحنا الثلاثة فى دهليز طويل .. كأنه الطريق الداخلى للهرم وكنت أحس بأنفاس المرأة .. وأشم عطر الفتاة التى أمامى ثم بلغنا حجرة واسعة فيها كل أنواع التماثيل والتحف النادرة ..

ورأيت عربة جميلة يجرها ستة جياد مطهمة .. وكانت تمثل القيصر نقولا .. وهو ذاهب إلى الأوبرا .. وكان كل جزء من التمثال يعد وحده تحفة نادرة الصنع ..

وسألت المدام ..
ــ أهذا صناعة يابانية ..؟
ــ إنها روسية خالصة .. وسأجعلك تتأكد من ذلك ...

وكلمت الفتاة .. فصعدت هذه سلما صغيرا .. لتأتى بالعربة ..

وبدا من سيقان الفتاة وفخذيها .. وهى واقفة على السلم أكثر مما ينبغى ولاحظت نظراتنا فحاولت أن تخفى عريها .. وكانت هذه الحركة منها .. أكثر إثارة من الموقف نفسه ..

فضحكت واهتزت ولم تستطع أن تحمل التمثال .. وقالت لها المدام وهى تبتسم وقد أدركت بغريزتها الموقف .
ــ انزلى .. يا اسوارا .. واستدعى .. سيمونوف ..

ونظرت إلىَّ بعد أن خرجت الفتاة من الدهليز .. وهى تضحك ..
ــ إنها طفلة ضاحكة ..

ثم تأملتنى مليا .. كأنها ترانى لأول مرة بكل صفاتى .. وسألت برقة ..
ــ هل أعجبتك طوكيو ... ؟
ــ رائعة ...
ــ وإلى متى ستبقى فيها ..؟
ــ إلى أن تطردونى منها ..
ــ إنك لن تطرد أبدا .. إننا نرحب بك مهما طالت إقامتك ..
ــ لقد قررت من هذه اللحظة أن أعيش فى طوكيو ..
ولم تعقب .. وابتسمت .. بكل جمال .. وبدت فى هذا الضوء الخافت .. وهى وحيدة معى ... أشد فتنة مما رأيتها فى الدور العلوى .. وأخذت أنظر إليها صامتا فى وله ..

ورأيت أنوثتها تجذبنى إليها بقوة .. وأخذت أتأمل كل قوامها .. ولاحظت.. كدمة .. أو ضربة بآلة حادة تحت عنقها .. ولكنها أخفتها ببراعة تحت ثوبها ..

وكانت واقفة قريبا منى .. وبدت من يدى حركة .. وأنا أشد إلى بعض التحف فلاحظت أنها جفلت .. كأنها تتصور أنى سأضربها ..

ثم استفاقت وقالت .. وقد شعرت بالخجل :
ــ لا أدرى ما الذى جرى لى ....

فابتسمت وقلت ..
ــ أن هذا يحدث لكل إنسان ..

وسألتنى وعيناها تفحصانى بدقة :
ــ ما اسمك ؟
ــ سليمان ..
ــ باكستانى ..؟
ــ لا .. مصرى ..
ــ أوه عظيم ...
ــ ما الذى تعمله ...
ــ لاشئ فى الوقت الحاضر ....!
ــ لا شئ ..؟!
ــ لا شئ إطلاقا ....!

وضحكت بكل جسمها ثم قالت وهى ترخى أهدابها ..
ــ إذن سأجعلك مديرا للمتجر ..
ــ ما أعظمه من عمل !

ووقفت أحلم بالعمل معها تحت سقف واحد .. واستفقت من أحلامى على أقدام سيمونوف وهو يقرع السلم .. وعندما رآنى أقف وحدى مع المدام رمانى بنظرة صاعقة على خلاف النظرة التى لقينى بها وأنا داخل المحل..

وانتصب فى الممر كالفارس وأشارت له المدام بيدها فهز رأسه وأدركت لأول مرة أنه أبكم ..

وصعد درجتين من السلم .. وأنزل العربة بسهولة وعناية ولما وضعها على الطاولة خرج يمسح يديه ..
وأخذت أنظر إلى التحفة فى إعجاب ..

وسألتنى المدام :
ــ أعجبتك ..؟
ــ إنها رائعة .. بكم تبيعينها .؟
ــ بمائة جنيه .
ــ أليس هذا كثيرا ..؟
ــ إنها تساوى ألفا ....

ونظرت إليها .. وكانت تبتسم فى نعومة ولم أكن أحب أن أقطع هذا الخيط الذى يصلنى بها .. فقلت ..
ــ هل يمكن ان تبقيها فى مكانها إلى الغد .. أحب أن أراها مرة أخرى ..
ــ كما تحب ..

ومشت معى إلى الخارج .. وعلى باب المتجر .. كان الرجل المارد فى مكانه .. وفتح لى بيده الباب وسمعت قرع الجرس أكثر وضوحا ..

***

وفى اليوم التالى .. أخذت فى لهفة أسأل مساعدة الطبيب .. وهى تعد لى الإبرة .. عن المتجر وعن المدام صاحبته على الأخص .. وقالت لى الفتاة كل ما تعرفه ..

قالت لى إن صاحب المتجر وزوج المدام الأول كان روسيا .. ومن أشهر تجار التحف فى طوكيو .. وكان يأتى بالأشياء النادرة من روسيا مباشرة قبل الثورة الحمراء وعاش مدة طويلة فى طوكيو .. فاستوطن فيها وأصبح من أهلها وتزوج هذه الحسناء اليابانية التى تدير المتجر الآن ولما مات لم تكن قد أنجبت منه فورثت المتجر وتزوجت ..

تزوجت رجلا يابانيا يدعى ايجاكوشى وهو سكير لا يفيق من السكر ويذهب كثيرا إلى يوكوهاما .. فى بعض أعماله ولذلك لا تراه فى المتجر إلا نادرا ..

أما الحارس الذى على الباب فهو قوقازى .. جاء مع الرجل الأول ...

***

ولما ذهبت إلى المحل .. عصر اليوم التالى .. اشتريت العربة .. وحملها سيمونوف إلى السيارة .. ولم أنقطع ــ بعد شراء العربة .. وبعد انتهاء أيام العلاج عند الطبيب ـ عن التردد على المتجر .. كنت أذهب إليه كل يوم تقريبا وأشترى أى شئ مهما صغر ..

وأصبحت المدام تعرفنى معرفة أكيدة وكنت كثيرا ما أراها فى شوارع طوكيو نتبادل التحية من بعيد ورأيتها ذات ليلة منطلقة فى عربة فخمة حول قصر الإمبراطور وكانت فى تلك اللحظة مثال المرأة اليابانية الأرستقراطية .. فى أناقتها وزينتها ولم يكن معها زوجها كانت تقود العربة الطويلة وحدها ولما رأتنى .. ابتسمت فى نعومة فأحنيت لها رأسى مرتين ..

ولما ذهبت إلى المتجر فى اليوم التالى .. وقفت أتحدث مع مدام ايجاكوشى قبل أن اشترى شيئا .. وعرفت الفندق الذى نزلت فيه والأماكن والملاهى التى شاهدتها ..

وسألتنى :
ــ وما الذى لم تره حتى الأن ....؟
ــ الجيشا .. والبيت اليابانى ...
ــ سأريك البيت اليابانى .. أما الجيشا .. فلا أعرف مكانها ..
وضحكت ...

وكانت تود أن نتلاقى فى المتجر .. ولكننى لم أكن أحب أن يرانى سيمونوف أو العاملات .. وأنا أركب عربتها .. وكنت فى الوقت نفسه لا أحب أن أذهب إلى بيتها فى النهار .. ولذلك اتفقنا على أن أنتظرها فى مشرب الـ ( كوين بى ) بشارع جنزا فى الساعة الثامنة مساء ..

وفى الموعد المحدود دخلت المشرب خفيفة رشيقة .. وقالت وهى تقرب عصير التفاح ..
ــ لم أستطع أن أجئ بالعربة ..
ـ لماذا ..؟ قد يكون هذا أحسن ..
ــ خشيت ألا أجدك هنا فى الوقت المحدود .. وأنت تعرف أننى لا أستطيع ان أقف بالعربة اكثر من ثانية واحدة فى شارع جنزا .
ــ أعرف هذا ...
ــ والعربة الآن فى جراج فندق نيكوسيا ..
ــ سنذهب إليها بالتاكسى ..
ــ أو على أقدامنا .. إننى أحب أن أمشى بجوارك ..

وأخرجنا العربة من جوف العمارة الكبيرة .. وركبت بجوارها ..

وانطلقت كالسهم وسط السهام النارية كأن هناك سيل متصل من العربات لا أول له ولا آخر ومع هذا كنا نسرع بأقصى سرعتنا .. ولم أكن أدرى وأنا جالس معها فى العربة نفسها أأنا مجرد عميل من العملاء التقى بها فى المتجر أو عشيق ذاهب معها إلى نزهة حالمة اختلط على الأمر كله .. ولكنها كانت أكثر رقة وعاطفة من كل النساء اللواتى التقيت بهن فى حياتى ..

وسارت السيارة أكثر من ساعة .. وأخيرا وصلنا منزلا صغيرا من طابقين .. فأوقفت العربة فى جانب ..

وسألتها :
ــ أهذا بيتك ؟ .. ما أجمله ..!
ــ إنه بيت أختى ...

وخلعت حذائى قبل أن أتخطى العتبة .. ومشيت حافيا وراءها على الحصير الملون الجميل .. وأدخلتنى فى غرفة صغيرة .. كلها حشايا ووسائد .. فجلست على الأرض ..

وقالت برقة :
ــ أرجو المعذرة .. سأغيب لحظة ..

وغابت .. وجلست مسترخيا .. وسمعت صوت قيثارة آتيا من الخارج حتى وقفت على الباب وكان الصوت يقترب منى وكانت ترتدى ملابس الجيشا.. وبيدها القيثارة ..

ولم أعرفها أولا .. ولما عرفتها انحنيت بجسمى وطوقت رجليها فتركت القيثارة من يدها وأرتمت بجوارى على الحصير ..

***

وبعد ثلاثة أيام رأيت زوجها فى المحل .. وكان قصيرا .. عريض الصدر .. ولم يكن عجوزا .. كما تصورته .. بل كان شابا ولكن وجهه كان مكورا مضغوطا كأنما ضغط عليه فك قوى ثم أطلقه ..
وكان يتحدث مع أحد العمال .. ووجهه على الأوراق ..

ولما أشتريت بعض الأشياء وخرجت كان قد غادر المحل قبلى ..

وفى ضحى يوم لم أجد المدام فى المتجر فسألت عنها إحدى العاملات ..

فقالت هامسة ..
ــ إنها مريضة فى البيت .. فقد ضربها زوجها حتى أدمى وجهها .

وفزعت وسألت الفتاة :
ــ ولماذا ضربها ..؟
ــ لأنه مخمور .. وهو دائما يضربها كلما عاد من يوكوهاما .. دون سبب..

وتألمت .. وكنت أود أن أجد وسيلة لرؤيتها .. وخرجت من المحل .. وعدت فى العصر إلى المحل .. ومن الخارج رأيتها فدخلت وأسرعت إلىّ كانت عيناها حمراوين وفى وجهها كدمات ظاهرة .. وأخذتنى كأنها سترينى شيئا فى الطابق الأرضى وهناك عصرتنى بذراعيها .. ومسحت جراحها بشفتى ..

وبعد ثلاثة أيام ضربها زوجها مرة أخرى ضربا مبرحا .. حتى عجزت عن الحركة .. وقعدت فى البيت .. وسمعت هذا الخبر من العاملة سيمايا .. فقررت أن أفعل كل ما فى طوقى لأنقذها من خبله ..

ولكن المقادير جرت أسرع منى .. فقد رأيت .. زوجها مشنوقا فى الليلة التالية ومعلقا تحت الجرس وكان المحل قد أغلق أبوابة .. ولكن الباب الخارجى كانت تهزه الريح العاتية فيرن الجرس ...

وكان سيمونوف .. جالسا فى مكانه من المدخل .. وكان ينظر إلى الجرس كعادته وهو يتحرك .. ولا يستطيع أن يسمع رنينه ..

وكان فى يده بقايا الحبل الذى أداره على عنق الرجل .. ولما اقتربت عربة البوليس السريعة وهى تشق الظلام وسكون الليل بصفيرها المزعج ظل فى مكانه وكانت الجموع تقترب منه كعادة الجماهير فى كل مكان ..

ولكن سيمونوف لم يكن يعيرها أية التفاتة ..!!
================================
نشرت القصة بصحيفة الشعب فى 26/5/1958 وأعيد نشرها بمجموعة حارس البستان وبمجموعة قصص من اليابان من اعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
================================

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

Hello. This post is likeable, and your blog is very interesting, congratulations :-). I will add in my blogroll =). If possible gives a last there on my blog, it is about the Flores Online, I hope you enjoy. The address is http://flores-on-line.blogspot.com. A hug.